هواجس المسيحيّين كيف تُزال ؟

الأب جورج مسّوح Wednesday September 14, 2011 139

عبّر البطريرك بشارة الراعي، في تصريحاته الباريسيّة، عن الهواجس التي تثير القلق لدى جزء كبير من المسيحيّين العرب من مصر إلى العراق مرورًا بفلسطين ولبنان وسورية. ولا يمكن الاستهانة بكلام البطريرك، لكونه ينطلق من وقائع وخبرات مريرة شهدتها وما زالت تشهدها منطقتنا منذ أكثر من قرن، عانى فيها أبناء هذه البلاد، مسلمين ومسيحيّين، من الحروب الداخليّة والصراعات المذهبيّة والطائفيّة، ومن الاحتلالات الأجنبيّة والدولة الصهيونيّة. لكن، جرّاء ذلك كلّه، دفع المسيحيّون الثمن غاليًا من رصيد أعدادهم وحضورهم وشهادتهم. فتناقصت أعدادهم، وتقهقر حضورهم، وتكاد أن تنعدم شهادتهم.

كما أنّ موقف البطريرك الراعي قد سبقه موقف مماثل صدر عن المجمع الأرثوذكسيّ برئاسة البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم، جاء فيه: “في ظلّ الظروف القائمة والتطوّرات الراهنة التي يشهدها العالم العربيّ، يتمنّى المجمع أن تستعيد سورية، هذه الدولة العربيّة المناضلة في تاريخها الحديث وفي ماضيها المجيد، استقرارها الداخليّ لتتمكّن، بالتوازي مع تحقيق الإصلاحات المنشودة، من أداء دورها الفاعل على الساحة الإقليميّة التي كانت، ولا تزال، محور نشاطها وضميرها”.

هذه الهواجس التي تنتاب المسيحيّين لها ما يبرّرها، ولا سيّما أنّ نموذج العراق وما تعرّض له المسيحيّون العراقيّون وأبناء الجماعات الدينيّة والإثنيّة الأخرى ما زال حيًّا، ولـمّا ينتهِ النزيف بعد. وقد أدرك المسيحيّون أنّ النظام الاستبداديّ الملتحف بغطاء العلمانيّة ليس ضمانةً دائمة لوجودهم، بل الدولة المدنيّة التي تحترم التعدّديّة والتنوّع ولا تنبثق قوانينها من شرع إلهيّ أو فقهيّ أو كهنوتيّ. لكن، في المقابل، لا يمكن المسيحيّين أن يركنوا إلى الفوضى والفتنة التي ربّما ستؤدّي إلى حروب مذهبيّة وطائفيّة، وهذا ما سيؤدّي حتمًا إلى هلاكهم.

المبادئ المسيحيّة تتناقض والاستبداد العلمانيّ والدينيّ على السواء. وإذا تاق المسيحيّون إلى الخلاص من نظام استبداديّ فهذا لا يعني البتّة أنّهم يتوقون إلى نظام استبداديّ آخر لا يقلّ ظلاميّة عن الأوّل. وهم لا يرغبون باستبدال نظام يقوم على الحقّ الإلهيّ بنظام يقوم على تسلّط فرد أو حزب واحد على الدولة والمجتمع. لكنّ المبادئ المسيحيّة لا تجد نفسها منسجمة مع سوى الدولة المدنيّة العلمانيّة التي تفصل بين السلطة الزمنيّة والسلطة الدينيّة، والتي في الآن عينه تحترم الحرّيّات وحقوق الإنسان، وليس في سواها من دول “علمانيّة” أو “دينيّة” مستبدة حاكمة بأمرها.

ثمّ ليس جديدًا كلام البطريرك الراعي على خشيته من الفتنة المذهبيّة السنّيّة-الشيعيّة. فقد سبقه الملك الأردنيّ منذ ثماني سنوات حين تحدّث عن خطورة تشكّل “الهلال الشيعيّ”. أمّا الاستقطاب الإيرانيّ-التركيّ (والسعوديّ وملحقاته) فيذكّرنا بالصراع الصفويّ-العثمانيّ. ويسعنا العودة إلى أيّام الخليفة معاوية بن أبي سفيان لإضافة أمثلة على قدم هذا الصراع المذهبيّ. فليس السنّة ولا الشيعة في حاجة إلى الراعي كي تثار فيما بينهم النعرات المذهبيّة المستعرة أصلاً بفضل بعضهم من السنّة والشيعة معًا، وعلى رأسهم بعض الفقهاء وأصحاب العمامات.

الهواجس التي يعبّر عنها القادة الكنسيّون لا يمكن نفيها أو إنكارها بالشعارات الوطنيّة أو باستذكار تاريخ – تعوزه الدقّة والصراحة !- من العيش المشترك والمصير المشترك… إزالة هذه الهواجس لن تحصل بسوى السعي معًا، مسلمين ومسيحيّين، إلى دولة مدنيّة تحترم الإنسان. وهل ينبغي التذكير بأنّ جماعة “الإخوان المسلمين” في سورية ترفض أيّ ذكر للدولة المدنيّة – بمعناها المدنيّ لا الدينيّ ! – في أدبيّاتها؟

الأب جورج مسّوح

“النهار”،14 أيلول 2011

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share