يسيطر لدى المسلمين والمسيحيّين على السواء الجهل العميم بالآخر المختلف دينيًّا، عدا عن الجهل النسبيّ لدى كلّ منهم بديانته الخاصّة. وأفضل وسيلة لمحاربة هذا الجهل تكمن في المعرفة الحقّ بالأديان: نشأتها، أهمّ محطّاتها التاريخيّة وشخصيّاتها، أهمّ عقائدها وممارساتها، قيمها والفضائل التي تدعو إليها، نظرتها إلى الإنسان والمجتمع.
هذه المعرفة القائمة على النصوص التأسيسيّة والوثائق التاريخيّة والمؤلّفات الأساسيّة، والبعيدة عن لغة التبشير والدعوة والوعظيّة المنحى، ينبغي أن تقوم ليس فقط على عرض مختلف جوانب الأديان ولكن أيضًا على نقد وتحليل تصرّفات المسيحيّين والمسلمين خلال التاريخ ومدى اقترابهم وابتعادهم عن نصوصهم المقدّسة، وبالتالي عدم الخلط بين صفاء الدعوة الإيمانيّة وسلوك المؤمنين خلال التاريخ.
هنا يأتي دور المدرسة، فالمطلوب هو تربية دينيّة، لا تعليم دينيّ تلقينيّ. وهذا يعني وضع كتاب موحّد للتربية الدينيّة، شرطه الأوّل الابتعاد عن التلفيقيّة وأنصاف الحقائق. ولكنّه في الآن عينه، يبرز أفكار أهل الأديان، ناقدًا الشرخ بين ما تحمله الأفكار من جمال وبهاء وبين ما قام به الإنسان باسم الأديان على مرّ التاريخ. ليس المطلوب تقديم الأديان من وجهة نظر واحدة إيجابيّة أو سلبيّة، بل المطلوب دراسة الأديان دراسة منهجيّة كأيّ مادّة أخرى وتحليلها على ضوء المعارف الحديثة.
فأين الضرر في أن يعرف الطالب المسيحيّ والطالب المسلم جنبًا إلى جنب أنّ الله واحد وهو خالق كلّ شيء؟ أفلا يشهدون جميعهم أن لا إله إلاّ الله؟ وأنّ الأنبياء جميعًا دعوا إلى عبادة هذا الإله الواحد بأساليب مختلفة بحسب البيئة الحضاريّة والثقافيّة التي وُجدوا فيها؟ أليس الله رحيمًا بالناس بحيث يعلن لكلّ منهم عن نفسه بالطريقة التي تناسبهم من دون تغريبهم عن بيئتهم وثقافتهم؟
أمّا بالنسبة إلى القيم والفضائل، فما الضرر في التأكيد على القيم الواحدة في الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة؟ ألا تلتقي هاتان الديانتان على مبادئ السلام والعدل وتحثّان على محاربة الظلم والاضطهاد ومقاومة الشرّ وإحقاق الحقّ؟ ألا تتّفقان على حثّ المؤمنين على دعم الفقراء والمساكين والمعذَّبين في الأرض؟ ألا تكرّمان الإنسان بمعنى إنّه “مخلوق على صورة الله ومثاله” (سفر التكوين 1، 26)، وإنّه “خليفة الله في الأرض” (سورة البقرة، 30)، وأنّ الله سلّمه إيّاها أمانة، فيكون الإنسان بالتالي المسؤول عن إعمار الأرض وإصلاحها وجعلها ملكوتًا أو فردوسًا؟
أمّا المسائل الروحيّة، فالديانتان تقوم أركانُهما على الصلاة والصوم والزكاة والتكافل الاجتماعيّ والأخوّة الإنسانيّة؟ ألا يخاف المسلم والمسيحيّ الله ويخضعان لتعاليمه وأحكامه ووصاياه؟ أليس ثمّة تعليم واحد فيما يخصّ انسجام الإيمان والتعبير عنه في الصلاة والصوم من جهة، والاهتمام بتطبيق الأحكام والوصايا من جهة أخرى؟ أليست المعاملات بين البشر جزءًا من العبادة الدينيّة في كلا الديانتين؟
لا ريب في أنّ المعرفة الحقيقيّة للآخر كما هو تساهم في ترسيخ الوحدة الوطنيّة، فالجماعة المؤمنة كجسم يتمتّع بقواسم إيمانيّة وعباديّة وسلوكيّة مشتركة لا تنفي الانتماء الوطنيّ ولا تتعارض معه، لأنّ الرابطة الوطنيّة هي غير الرابطة الدينيّة ولا تسبب الواحدة منهما نفيًا للأخرى. ولا ريب أيضًا أنّ الانفتاح الدينيّ الحقيقيّ المبني على الاحترام المتبادل والحوار الصريح هو الذي يؤدّي إلى بناء الإنسان وبناء المواطن الصالح.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،17 تشرين الأول 2012