وقفت مريم المجدليّة منتحبةً أمام قبر يسوع، وقالت لسائليها عن سبب بكائها: “إنّهم أخذوا سيّدي ولا أعلم أين وضعوه” (يوحنّا 20، 13). هي انتحبت لأنّها اعتقدت أنّهم سرقوا جسد المسيح أو أنّهم اختطفوه، إلاّ أنّها حين أدركت أنّه قام من بين الأموات فرحت وتهلّلت ونقلت البشارة بهذا الأمر إلى كلّ مكان وطأته قدماها.
حالنا اليوم لا تختلف عن حال المجدليّة المرتبكة أمام اختفاء سيّدها ومخلّصها. “إنّهم أخذوا سيّدي ولا أعلم أين وضعوه”، صرخة ملتاعة يقولها كلّ مَن ليس راضيًا عمّا يجري في بلادنا من تقتيل وتهجير وتدمير، ومن فرز طائفيّ وشحن مذهبيّ وسعي حثيث إلى الفتنة. حالنا يشبه حال المجدليّة، لأنّ إلهنا وسيّدنا اختطفه وصادره واحتكره وأقفل عليه بعض الزاعمين النطق باسمه.
نعم يا مريم، أخذوا سيّدك وسجنوه في شعائرهم وطقوسهم واحتفالاتهم وتركوا “أثقل ما في الشريعة وهو العدل والرحمة”، أي الإنسان. نعم، أخذوا سيّدك وأسروه في صلواتهم وأصوامهم وممارساتهم الدينيّة وأهملوا إطعام المساكين ومساعدة الأرامل والأيتام، “أرأيت الذي يكذّب بالدين… الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون”. نعم، أخذوا سيّدك وحبسوه في فهمهم المنحرف لكلامه، وعكسوا مقولته الشهيرة: “جُعل السبت (أي الشريعة) للإنسان لا الإنسان للسبت”.
تتسائلين، يا مريم، أين وضعوا سيّدك؟ سبَوه وجعلوه خادمًا لأحقادهم وضغائنهم، وقائدًا لحروبهم المذهبيّة والطائفيّة، وجنديًّا يحارب في صفوفهم، وعاملاً في سبيل الفتنة، وسيّافًا يرتكب المجازر… لم يقبلوه مصلوبًا من أجل حياة العالم، فضّلوا عليه الإله كما أدركه أهل العهد القديم. عادوا إليه وأحيوه ونصّبوه عليهم إلهًا. سيّدك، مريم، الذي أحببته يصلبوه كلّ يوم. أليس هذا أسمى الحبّ وألذّه؟
نعم، يا مريم، أخذوا سيّدك وقتلوه، واتّبعوا هواهم واتّخذوه لهم إلهًا، “أفرأيت مَن اتّخذ إلهه هواه”. قتلوا سيّدك، مريم، لأنّ الوثنيّة التي هي عبادة الشهوة استهوتهم. فتظاهروا باتّباع الأحكام الدينيّة على الملأ، كما الشياطين التي تظهر أحيانًا بلباس من نور، فيما هم في الواقع لا ينقادون لسوى إبليس “الكذّاب وأبي الكذب”. أين سيّدك يا مريم؟ قتلته أوثان السلطة والمال، ومَن يسعى إليهما من دون النظر في الأثمان الباهظة، ولا سيّما الأرواح البشريّة، المقدّمة قرابين على مذابحها.
نعم يا مريم، أخذوا سيّدك “المنـزّه عن الخطيئة” ولطّخوه بدماء الأبرياء والأطفال والعزّل. نعم، أخذوا سيّدك “الذي ليس كمثله شيء” وجعلوه مثلهم يشبههم في كلّ بشاعتهم. نعم، أخذوا سيّدك ذا القدرة والقوّة، وصيّروه بلا حول ولا قوّة مشلولاً عاجزًا عن الدفاع عن المسكين واليتيم والبائس والمقهور. نعم، أخذوا سيّدك الرحيم المحبّ البشر، وألبسوه لباس الجلاّدين وحاملي الفؤوس والمناجل. يا مريم، كبّلوا سيّدك وأطلقوا مكانه مسخًا يبرّر لهم أفعالهم الشنيعة ويباركها.
بيد أنّ مريم المجدليّة أدركت أنّ سيّدها لا يمكن أن يبقى مدفونًا أو مأسورًا أو مخطوفًا. هو يبقى في القبر ما دامت هي تعتقد أنّه ما زال في القبر. هو نهض من قبره حين صدّقت وآمنت أنّه قام. فهل عرفت يا مريم أين سيّدك؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”،1 آب 2012