تشهد الحقبة المعاصرة تناميًا للجماعات السلفيّة، ممّا يثير القلق لدى الكثير من المسلمين وغير المسلمين. و”السلفيّة” اصطلاح عامّ يضمّ تيّارات وحركات عديدة تجمعها سمات واحدة، لكنّها غير موحّدة على الصعيد التنظيميّ. وتتنوّع هذه التيّارات وتتوزّع بين ما هو متشدّد وما هو معتدل، بين ما هو جهاديّ وما هو مسالم.
بيد أنّ الاصطلاح العامّ الذي يتّفق عليه عموم السلفيّين هو الاتّجاه الذي يدعو إلى الاقتداء بالسلف الصالح واتّخاذهم قدوةً ونموذجًا في الحاضر. أمّا السلف الصالح فهم أهل القرون الثلاثة الأولى من عمر الإسلام، بناءً على قول رسول الإسلام: “خير الناس قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته”. كما أنّ السلفيّة، عمومًا، تعتبر نفسها حركة دينيّة إصلاحيّة، تدعو إلى التمسّك بالنصوص الشرعيّة، والعودة إلى السلف الصالح، وإحياء التراث الدينيّ من أجل التزام أفضل بالإسلام.
أمّا أبرز السمات الجامعة للسلفيّة المعاصرة فهي وفق الباحث أنور أبو طه: المرجعيّة النصّيّة قبالة العقل حيث التوسّل بالنصّ الشرعيّ (القرآن والسنّة والصحيحة) يتقدّم على العقل؛ أولويّة الماضي على الحاضر حيث يتمّ تقديم فهم الصحابة والسلف في تفسير النصّ الشرعيّ، وكذلك تجربتهم؛ السنّيّة حيث يتمّ تضخيم مرجعيّة السنّة النبويّة على حساب النصّ القرآنيّ؛ الاتّباع وترك الابتداع، فكلّ جديد بدعة، أمّا التجديد فهو تطهير الدين ممّا لحق به من بدع؛ محاربة التصوّف والعرفان الطرقيّ؛ الفقاهة بمنطق الاعتقاد، أي التعامل مع الأحكام الفقهيّة التشريعيّة بمنطق اعتقاديّ (“السلفيّة الجهاديّة ومسألة الدولة”، في كتاب “السلفيّة، النشأة، المرتكزات، الهويّة”، معهد المعارف الحكميّة، الشيّاح، 2004).
ويرتكز الفكر السلفيّ أيضًا على عقيدة “الولاء والبراء”، أي الولاء للإسلام والبراءة من المشركين وغير المسلمين، ويذهب هذا الفكر أيضًا إلى البراءة من المسلمين غير السنّة، من أهل المذاهب الأخرى، ومن أنظمة الكفر السائدة في العالم الإسلاميّ. كما يعتبر الفكر السلفيّ أنّ الولاء للعقيدة وللإسلام وليس للمسلمين أو للوطن، أو لأيّة أفكار بشريّة كالاشتراكيّة والليبراليّة والقوميّة والعروبة والديموقراطيّة والعلمانيّة وسواها. ويعتقد هذا الفكر بشموليّة الإسلام بكونه عقيدة وشريعة ونظام حياة تقبل التأويل أو الاجتهاد، بغضّ النظر عن الزمان والمكان والبيئة والظروف (عبد الغني عماد، “السلفيّة وإشكاليّة الآخر، بين المفاصلة والمفاضلة”، المرجع ذاته).
من هنا يطمح السلفيّون إلى نموذج الدولة الإسلاميّة في العصور الأولى للإسلام، نموذج الخلافة. ويتأسّس هذا الطموح لديهم على مبدأ “الحاكميّة الإلهيّة” الذي تمّ التأصيل له في جوهر الإيمان بالله، أي الخضوع له بوصفه ربًّا له حقّ العبادة والتقديس والتنزيه، وإلهًا له حقّ الحكم والتشريع. وذهب أبو الأعلى المودودي (ت 1979) أمير الجماعة الإسلاميّة في الباكستان إلى القول بأنّ المفهوم الذي يناظر مفهوم “الحاكميّة الإلهيّة” على سبيل الضدّ والنفي إنّما هو مفهوم “الجاهليّة”. وهكذا أصبحت “الحاكميّة” لدى السلفيّين قرينة “التوحيد”.
تنامي السلفيّة، إذًا، يبعث على القلق لدى مريدي الدولة المدنيّة، قولاً وفعلاً، من مسلمين وغير مسلمين. واللافت أنّ السلفيّين قد وصلوا إلى الحكم بالوسائل الديموقراطيّة التي يستهجنونها، فنرجو ألاّ ينقلبوا عليها بعد استلامهم الحكم لأنّها تخالف اعتقادهم. فهل سنرى اتّجاهًا ديموقراطيًّا في السلفيّة الحاكمة؟ هذا ما ستجيب عليه التجربة الراهنة.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،18 كانون الثاني 2012