يُبرَّرُ العنفُ أحياناً بكونه خللاً في العدالة، وهذا صحيح. لكنّ ما يجري من عنفٍ وشرٍّ في بلادي هو بعيدٌ تماماً عن هذا التبرير.
كيف تسوِّغُ دولٌ لنفسِها إرسال جيوشٍ وأسلحة، وتتباكى في الوقت ذاته على مدنيّين؟!! كيف يسوِّغُ شخصٌ لنفسِه أن يعبرَ الحدود من بلادٍ بعيدة ليشارك في قتالٍ؟! ما هذه الحميّة؟ ما هذه العقيدة؟ ما هي الشرائعُ التي تبيح قتلَ الناس، ودمار الحجر والحضارة، واقتلاع الشجر، وتجريف التربة، وانتهاك المقابر؟! أيّة عدالةٍ يبحث عنها هؤلاء؟
ما يُقدَّمُ من تبريرات لهذا الإجرام الوحشيّ، هو أمرٌ يثير العَجَب والاستغراب. ماذا فعل أبناء محردة مثلاً حتّى تُطلَقَ عليهم الصواريخ؟ ماذا فعل أهل معلولا من قَبْلِهِم؟ ماذا صنعت راهبات معلولا، غير الصلاة والصوم والدعاء، حتّى يُخطفن؟ وماذا فعل مطرانان يسعيان للسلام حتّى يُغيَّبا والعالَمُ فاغرٌ فاه؟ أو ماذا فعل أبناء حميديّة حِمْصَ حتّى تُحتَلَّ بيوتهم ومن ثَمَّ تُقصَف؟ أو … أو …
إنّه جنونٌ مُطبِقٌ وشرٌّ كامل أصاب العالم بأسره. فماذا نحن فاعلون؟
للوهلة الأولى تدفعنا غرائزنا للكراهية والانتقام، أو للوعيد على الأقلّ. وهذا بدوره يؤجّج العنف ويعرقل التواصل، وسيادة السلام.
دورُ المسيحيين – وربّما قدَرُهُم أيضاً – أن يكونوا جسر التواصل بين البشر والجماعات التي تبدو متناحرة. دورُهم – على قلّة عددهم – أن يكونوا المكان الآمن الذي يلتجئ إليه كلّ ضعيفٍ ومشرّد. أن يكونوا الحضن الدافئ لكلّ إنسانٍ متعَب، وهذا متعِبٌ كثيراً، وكثيراً جدّاً.
قالَ الشاعرُ أحمد شوقي فيما مضى:
يا فاتحَ القدسِ خلِّ السيفَ ناحيةً ليسَ الصّليبُ حديداً كان بل خشبا
إذا نظرتَ إلى أينَ انتهتْ يدُهُ وكيفَ جاوزَ في سلطانِهِ القُطُبا
علمتَ أنّ وراءَ الضعفِ مقدرةً وأنّ للحقِّ لا للقوّةِ الغَلَبا
هذا شاعرٌ مسلم يعبِّرُ عن فهمٍ عميقٍ لفداء الربّ يسوع. إذاً المسألة مسألةُ شهادةٍ تؤدّي إلى فهمٍ وتنشئة.
كما ورد على لسان القدّيس بولس الرسول: “إنّ كلمة الحقِّ عند الهالكين جهالةٌ أمّا عندنا نحن المؤمنين فهي قوّةُ الله” 1 كو 1: 18.
منطقِ العالم كلِّه يقول: “القوّة تغلِب” ما عدا يسوع فقد غلبَ العالم بموته على الصليب، “وطئ الموتَ بالموت”.
لم يُنْشئْ يسوع جيشاً، لم يصنع دولة أو يدعو لذلك، لكنّه انتصر. نعم انتصر، رسالتُهُ باقيَةٌ ومستمَرَّةٌ فينا.
ما ينقص المسيحيّين اليوم هو هذا الإيمان، هذا الفهم لسرّ الصليب. كيف نغلِب بالمحبّة؟! كيف نكون في هذا العالم ولا نكون من أبناء هذا العالم؟! صحيحٌ أنّها معادلةٌ صعبةٌ، لكنّ حلَّها هو ما يجعلنا نشهد وننتصر.
هل هذا ممكنٌ اليوم؟ نعم ممكن. وهذا ما عاشته جماعاتٌ مسيحيّة متعدّدةٌ خلال هذه الحرب الظلاميّة البشعة، عاشته في الواقع، سواء في حمص أم حلب أم دمشق وريفها… حيث شهدت هذه المناطق أقسى حالات العنف على تنوّعها. فكانت الكنائس والبيوت – لا عن خوفٍ أو ابتآس – ملجأً للهاربين من عنف الحرب من الديانات والمذاهب والأعراق كلّها، وهذا كان، وما زال، محطّ تقديرٍ كبيرٍ سواءٌ من أبناء المجتمع المحيط، أم من الجهات الرسميّة.
لعب المسيحيّون دوراً مهمّاً في التواصل والتهدئة والإيواء والاستقبال والتعليم، وهذا كلّه ساعد في فهم رسالة المسيح، وتثبيت الوجود المسيحيّ، وشعور المسيحيّين بأهميّتهم على قلّة عددهم.
عندما نعي سرّ الصليب، سرّ المحبّة، نستطيع أن نغلب الشرّ العظيم المتفاقم في هذا العالم.
عندما يغيبُ إيماننا ونصير كغيرنا جماعاتٍ وطوائفَ نخسر أنفسنا، ونخسر شهادتنا، ونصبح أقليّاتٍ تبحث عن سندٍ أو معينٍ ويَتَلاعبُ بنا العالم.
عندما كان الشرقُ يتخبّط في ظلمة الدّولَةِ العثمانيّة وتبعاتها، كان المسيحيّون في مقدّمة صانعي النهضة في هذه البلاد، وبعث النور فيها بالأخلاق والعلم المرتكز على الإيمان بالمخلِّص الفادي.
دورُنا اليوم ليس أقلّ أهميّة منه بالأمس. المهمّ أن نؤمن بالمصلوب، ونثق برسالته فنفهمها ونعيشها فننقذ أنفسنا وهذا العالم.
الأب بطرس الجمل كاهن رعية كنيسة البشارة- المحطة، ورعية كنيسة القديسين بطرس وبولس-الوعر حمص.