أديان أم فِرق ناجية ؟

الأب جورج مسّوح Wednesday December 24, 2014 177

حيثما يسود التطرّف، يغيب الله. يمسي الله إله القبيلة، لا ربّ العالمين، طوطمها الذي يحميها من أبناء القبائل الأخرى ويحصّنها في برجها العاجيّ. يصبح الله “ماركة مسجّلة” لفئة من دون أخرى. لا يحضر إلاّ في عباداتها ولا يلبّي دعوات سواها. هو مجرّد موظّف، متأهّب دائمًا لتنفيذ رغباتها. وعوضًا عن المحبّة والرحمة يحلّ الكره والقساوة في الكلام على علاقة الله بالخليقة. هي “الفرقة الناجية” وحدها التي تدخل الجنّة، بينما يذهب مَن لا يعتنق مبادئها إلى النار الأبديّة. هل يمكن اختزال الإله العظيم إلى إله صغير مكتفٍ بفرقة واحدة دينيّة أو مذهبيّة أو قوميّة؟

ظاهرة التطرّف لا تقتصر على التمييز ما بين أبناء ديانة وأخرى فحسب، بل تصل إلى التمييز في الديانة الواحدة ما بين أبناء طائفة وأخرى ومذهب وآخر. أمّا الطامّة الكبرى فحين يصل التمييز ما بين أبناء الطائفة الواحدة على أساس الإخلاص الكلّيّ لمعتقدات البعض فيها ونبذ كلّ مَن يخالفها.

يبدأ التطرّف الدينيّ لدى أصحابه من التماهي التامّ بين ما هو جوهريّ وما هو حادث. ففيما لا يجوز اعتبار الإيمان بعقيدة التوحيد في مستوى واحد مع ما هو موروث ثقافيّ أو اجتماعيّ، نرى مَن ينهج نهج التطرّف يضعهما في مستوى واحد، ويصل إلى تكفير كلّ مَن لا يوافقه الرأي، منصّبًا نفسه ديّانًا على الناس. والويل لمَن يلجأ إلى الحرّيّة التي تتيحها الديانات وفق أصولها كي يجتهد في أمر من الأمور الحادثة في التاريخ، فيصبح زنديقًا خارجًا عن الجماعة يستحقّ الإقصاء والحُرم والنبذ. إمّا أن يكون المرء نسخة طبق الأصل عن شريكه في الإيمان، أصولاً وفروعًا ونوافل، وإمّا يُحكم عليه بالمروق والجحود والضلالة. التنوّع مع الوحدة ممنوع.

في الواقع يعبّر التطرّف عن أزمة الخطاب الدينيّ المعاصر. فهذا الخطاب المتأزّم، الذي يهاب المعرفة ويبتعد عنها متّخذًا الجهل سلاحًا ماضيًا، يجد راحته في تعميم الغرائز على حساب الفكر الدينيّ السليم. والجهل هو الطريق الأسهل للسيطرة على قلوب العامّة وأفئدتهم، والمعرفة قد تشكّل خطرًا على مَن يريد الهيمنة على قومه. ليست المشكلة في العامّة التي تنقاد بقلب صافٍ إلى ما يقوله ويفعله القادة الدينيّون، بل المشكلة في الأفكار التي يروّجها هؤلاء القادة في خطابهم الدينيّ. وهذا الخطاب يتوسّل الاستعلاء على كلّ ما يخالفه، وبخاصّة حين يكون الخوف من الآخر المختلف حافزًا إضافيًّا للتزمّت والانغلاق على الذات.

التطرّف يسهم في تغييب الله ذلك أنّه يختزل “الدينيّ” إلى “الإيديولوجيّ” الذي يطمح إلى أن يكون توتاليتاريًّا شموليًّا. هكذا تفقد الديانات أبعادها الروحيّة والأخلاقيّة لينتصر البعد الإقصائيّ لكلّ ما لا يوافق أفكارها ومعتقداتها. فتتحوّل هذه الديانات ذات الرسالات العالميّة، إذذاك، ويا للمفارقة، إلى فرق منعزلة، إلى “غيتوات” منغلقة على ذاتها.

لا يقتصر التطرّف على ديانة من دون أخرى، ولا على مذهب واحد أو طائفة واحدة. الله ليس أسير أحد، فلماذا يتوهّم أصحاب التطرّف بأنّ الله لهم من دون سواهم؟ في كلّ حال هذا لا ينفي مسؤولية رجال الدين عن انتشار التطرّف، ومسؤوليتهم عن القضاء عليه.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 24 كانون الأول 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share