استرعى انتباهي، حين كنتُ طالبًا في معهد اللاهوت، كلام أحد أساتذتي عن كون الديانات الوثنيّة في تعاملها مع الآخر المختلف دينًا، أكثر تسامحًا من الديانات التوحيديّة الإبراهيميّة. فكان يوجد في كلّ مدينة من مدن تلك الأيّام “بانتيون” يضمّ تماثيل الآلهة كلّها، أو معظمها. وكان هذا هو الحال في روما وأثينا والإسكندريّة… ومكّة أيضًا.
أتت الديانات التوحيديّة وقضت على التنوّع الدينيّ وحرّيّة الاعتقاد والعبادة. ومارست تلك الديانات أحكام التكفير، بقوّة الدولة والقانون، على كلّ مَن يخالف ديانة الإمبراطور المسيحيّ أو الخليفة الإسلاميّ. فتهدّمت المعابد الوثنيّة، أو تمّ تحويلها إلى كنائس. وفي حقبة أخرى تحوّلت الكنائس إلى مساجد…
لا تطيق الديانات التوحيديّة الاختلاف في الرأي. تسارع إلى تكفير أو هرطقة مَن لا يعتقد باعتقاداتها. وكي لا تأكل الغيرة قلب أحدهم معترضًا على كلامنا بكمّ من الآيات البيّنات، نقول إنّ ما أوردناه هو واقع الممارسة الدينيّة عبر ألفي عام، لا ما تأمر به النصوص التأسيسيّة أو الأنبياء… للأسف ما زلنا في منطقتنا نشاهد الدليل تلو الآخر على صحّة القول بعدم قبول المختلفين دينيًّا، أو بتهميش دورهم في الشأن العامّ.
إذا أجرينا مقارنة ما بين بلادنا، حيث تسود الحالة الدينيّة والطائفيّة على ما عداها، وبلاد الغرب، حيث تمّ الفصل ما بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة، نجد للوهلة الأولى أنّنا ما زلنا نتقاتل ونتحارب ونتذابح باسم الإله الواحد، فيما تحيا المجتمعات الغربيّة بسلام وأمان واطمئنان.
منذ مائتي عام نسمع نفاقًا من قبيل أنّ الغرب متقدّم علينا علميًّا، لكنّنا متقدّمون عليه أخلاقيًّا. أين هي هذه الأخلاق التي نتحلّى بها؟ ارتكاب المجازر، والذبح، والتهجير، وهدم بيوت الناس فوق رؤوسهم، والقصف العشوائيّ، والتفجيرات الانتحاريّة، والخطف، والتمييز الطائفيّ والدينيّ، والتكفير، وعدم قبول الآخر؟ أين الأخلاق حين يصبح الإنسان سلعة لا يساوي فلسًا واحدًا في بازار المذاهب، وحين يصبح مجرّد رقم يضاف إلى عدد القتلى؟
يقال إنّ الغرب عاد إلى الوثنيّة، وإنّ النظام العلمانيّ نظام كافر لأنّه فصل ما بين الدين والدولة. لكنّنا نقول إنّ “وثنيّة” الغرب أفضل من همجيّتنا وتخلّفنا. فالغرب لم يحظّر الانتماء الدينيّ، والمسيحيّ والمسلم واليهوديّ والبوذيّ والهندوسيّ والملحد واللاأدري يمارس ما يؤمن به بملء حرّيّته وقناعته، وبمساواة تامّة في الحقوق والواجبات. هم يبنون الكنائس والمساجد والمعابد أنّى شاؤوا ومتى شاؤوا، ويحيون بسلام واحترام بعضهم مع بعض، ولا يتقاتلون بسبب انتماءاتهم الدينيّة أو العرقيّة أو الجنسيّة… أين الأخلاق، والغرب العلمانيّ “الكافر” يختار رؤساءه ونوابه بالديمقراطيّة من دون إراقة دم أحد، فيما بلادنا لا يُتداول فيه الحكم إلاّ بسفك الدم وبغزارة؟
في الوقت الذي نعود فيه إلى القرون الوسطى، يتابع العالم كلّه مباريات بطولة كأس العالم في كرة القدم. فيما تتدحرج رؤوس الناس في بلادنا بين أقدام السفّاحين والسيّافين، تتدحرج كرة بين أقدام لاعبين رياضيّين. فيما تتقاتل دول ومحاور في بلادنا، باسم الله، لتسجيل أكبر نسبة من القتلى، يسعى “آلهة” كرة القدم إلى تسجيل أهداف نظيفة في مرمى الخصم.
نعم لـ”وثنيّة” حضاريّة راقية تقبل بالتنوّع والتعدّد في الشأن العام، وتصون دماء أبناءها. وألف لا لناطقين باسم الله، نزعوا الله عن عرشه وجلسوا مكانه، واستباحوا لأنفسهم الدمار والدماء.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 9 تموز 2014