الطفل المقمّط بكفنه

الأب جورج مسّوح Wednesday December 9, 2015 137

ما صار ابن الله الكائن منذ الأزل إنسانًا، بل عبدًا، إلاّ لكي يموت على الصليب ويقوم في اليوم الثالث. وهذا ما يجمع عليه التراث اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ بالاستناد إلى الكتاب المقدّس بعهديه العتيق والجديد. لذلك يظهر الطفل يسوع في أيقونة الميلاد ملفوفًا بالكفن، شأنه شأن الأموات، لا بالقماط كما يليق بكلّ طفل مولود جديد. والجدير بالذكر أنّ الأيقونة الأرثوذكسيّة ليست وظيفتها جماليّة أو تصويريّة وحسب، بل تعبّر عن تعليم لاهوتيّ وروحيّ، وتحتلّ مكانة مميزة في الطقوس العباديّة.

ما يؤكّد كلامنا هو أنّ ثمّة نشيدًا كان منتشرًا في بدايات المسيحيّة، واعتمده القدّيس بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيلبّي مضيفًا إليه فكرتين أساسيّتين مترابطتين، هما: المسيح الذي أخلى ذاته متّخذًا صورة العبد، وموت المسيح على الصليب: “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا: الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى ذاته، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصليب” (2، 5-8).

لماذا اختار ابن الله صورة العبد وليس صورة أحد سواه؟ ذلك أنّ العبد وحده كان حكمُ الموت عليه يتمّ بالصلب في الإمبراطوريّة، فيما كان المواطن الرومانيّ قصاصه قطع الرأس بالسيف. أمّا الدافع اللاهوتيّ فهو الإشارة إلى نبوءة إشعيا النبيّ عن عبد الربّ الذي “لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. محتقَر ومخذول من الناس، رجل أوجاع (…) وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا (…) كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازّيها فلم يفتح فاه” (إشعيا، الفصل 53 بكامله). وقد رأت الكنيسة أنّ هذه النبوءة الإشعيائيّة قد اكتملت وتحقّقت بموت المسيح المخلّص على الصليب…

من جهة أخرى، يعتبر القدّيس كيرلّس الإسكندريّ (+444)، شارحًا مثل الوليمة (متّى 14، 16-24)، أنّ الله الآب هو صاحب الدعوة إلى الوليمة، وأنّ العبد المرسل الذي طاف على المدعوّين لتذكيرهم بالوليمة إنّما يرمز إلى المسيح نفسه، فيقول: “أقام خالق الكون وأبو المجد عشاءً عظيمًا، وليمة للعالم كلّه على شرف المسيح. وفي ملء الأزمنة قام الابن من أجلنا. عانى الموت لأجلنا وأعطانا أن نأكل جسده، الخبز من السماء الذي يعطي الحياة للعالم”. ثمّ يتساءل كيرلّس نفسه: “مَن هو المرسل؟ يقول إنّه كان عبدًا. ربّما كان المسيح. على الرغم من أنّ الكلمة هو إله بالطبيعة وابن لله الآب الذي أعلنه لنا، فقد أخلى نفسه وأخذ صورة عبد (فيلبّي 2، 6)”.

إذ نحن قادمون إلى عيد الميلاد المجيد، ينبغي لنا ألاّ نغفل عن المعنى الحقيقيّ للعيد. لقد دعانا الله إلى وليمة، وأرسل ابنه الوحيد إلى العالم على صورة عبد كي يصبح خادمًا لخلاص العالم كلّه بموته على الصليب وقيامته. أتى يبحث عنّا في الأزقّة والشوارع وفي كلّ مكان على وجه البسيطة، هو يشاؤنا ألاّ نعتذر عن وليمته. فما علينا، إن شئنا أن نلبّي دعوة الله الكريمة، سوى أن نعمل بمقتضى كلام الربّ نفسه: “إذا أقمتَ وليمة غداء أو عشاء، فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوانك ولا أقرباءك ولا جيرانك الأغنياء، لئلاّ يبادلوك الدعوة فتنال المكافأة على صنيعك. ولكن، إذا أقمتَ وليمة فادعُ المساكين والكسحان والعرجان والعميان. فطوبى لك إذ ذاك لأنّهم لا يسعهم أن يكافئوك فتُكافأ في قيامة الأبرار” (لوقا 14، 12، 14).

الأب جورج مسّوح

موقع ليبانون فايلز، 9  كانون الأول 2015

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share