تحتفل الكنيسة الأرثوذكسيّة غدًا الخميس بعيد الصعود الإلهيّ، صعود المسيح إلى السماء بعد أربعين يومًا من قيامته من بين الأموات. والراجح أنّ الكنيسة حتّى القرن الرابع الميلاديّ كانت تجمع في يوم واحد هذا العيد مع عيد العنصرة، ذكرى حلول الروح القدس على التلاميذ في اليوم الخمسين للفصح. غير أنّ الكنيسة الأورشليميّة هي التي بدأت تقليدًا جدًّا سرعان ما اعتمدته الكنائس الأخرى بفصل عيدَي الصعود والعنصرة وجعلهما مستقلّين.
متى حدث الصعود؟ يذكر القدّيس لوقا الإنجيليّ الصعود في موضعين مختلفين من كتاباته: في الفصل الأخير من إنجيله، وفي الفصل الأوّل من كتاب أعمال الرسل. ففي الإنجيل يذكر لوقا أنّ المسيح صعد إلى السماء في اليوم ذاته الذي قام فيه، فبعد أن تراءى لتلاميذه “أخرجهم خارجًا إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم، وفيما هو يباركهم، انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء” (لوقا 24، 50-51). أمّا في كتاب أعمال الرسل فيذكر لوقا، واضع الكتاب، أنّ يسوع أرى نفسه لتلاميذه حيًّا بعد تألّمه ببراهين كثيرة وهو يتراءى لهم مدّة أربعين يومًا ويكلّمهم بما يختصّ بملكوت الله (أعمال الرسل 1، 3)، و”ارتفع وهم ناظرون وأخذته سحابة عن عيونهم” (أعمال الرسل1، 9).
هل ثمّة تناقض ما بين روايتَي لوقا عن زمن صعود المسيح؟ هل يمكن أن يقع الكاتب في خطأ فادح سوف يطيح بصدق إنجيله كلّه من ألفه إلى يائه؟ هل حدثَ الصعود، إذًا، في اليوم عينه للقيامة أم في اليوم الأربعين للقيامة؟ لا ريب في أنّ لوقا، الطبيب السوريّ الأنطاكيّ، لم يقع في التناقض، بل ميّز ما بين أمرين: توقيت الصعود الذي تمّ يوم القيامة، من جهة، ومدّة الأربعين اليوم التي استمرّ فيها ظهور المسيح لتلاميذه، من جهة أخرى.
واقع الأمر أنّ عدد الأربعين في الكتاب المقدّس، بعهديه العتيق والجديد، هو عدد رمزيّ يدلّ على زمن مقدّس يمهّد لحدث عظيم. أراد لوقا، إذًا، من خلال نصّيه المذكورين التشديد على أنّ الصليب والقيامة والصعود إنّما تشكّل ثلاثتها حدثًا واحدًا تمّ في توقيت واحد، وفي الآن عينه أراد التأكيد على أنّ المسيح قد تراءى لتلاميذه مدّة أربعين يومًا كي يتيقّنوا من قيامته ويهيّئهم لزمن جديد من حضوره بينهم قبل أن يرتفع إلى السماء.
تؤمن الكنيسة الأرثوذكسيّة بأنّ حدث صعود السيّد المسيح إلى السماء وجلوسه عن يمين الله الآب ليس سوى حلقة من سلسلة لا تنفصم عراها تمتدّ من تأنّس كلمة الله إلى صلبه وقيامته من بين الأموات وصعوده وإرساله الروح القدس إلى العالم. أمّا الغاية من هذه الأحداث كلّها فافتتاح عهد جديد بادر إليه الله نفسه، في سبيل أن ينال الإنسان حياة أبديّة في حضرة الله وبمعيّته. هذا العهد الجديد يتأسّس على مجموعة من التنازلات الإلهيّة اقتضتها محبّة الله اللامتناهية للبشر. فليس تأنّس الكلمة سوى تنازل قام به الله من أجل أن يشارك الإنسان بطبيعته المخلوقة. وليست آلامه وصلبه وموته سوى تنازل آخر…
في حدث الصعود تمّ التأكيد على الشركة الإلهيّة-الإنسانيّة التي بادر إليها الله منذ خلق الإنسان الأوّل إلى أن يحلّ اليوم الآخِر. ففي الإنسان ثمّة حضور إلهيّ، وفي الله صار، بفضل التأنّس، ثمّة حضور إنسانيّ. أهمّيّة هذا الحدث تكمن في أنّ الطبيعة البشريّة التي اتّخذها كلمة الله، الإله حقًّا، قد جلست عن يمين الله في الأعالي. فأصبحت الطبيعة البشريّة حاضرة في الله نفسه، وصارت قابلة للخلاص الأبديّ.
الأب جورج مسّوح
موقع ليبانون فايلز، 8 حزيران 2016