عندما سأل تلاميذ يسوع معلّمهم عن علامات مجيئه ونهاية العالم، لم يعيّن لهم موعدًا، لكنّه حدّثهم عن علامات ليست غايتها سوى الإشارة إلى أنّ “مجيء الربّ قريب”. ثمّ يؤكّد لهم أنّ ذلك اليوم وتلك الساعة “لا يعرفهما أحد، لا ملائكة السموات ولا الابن، إلاّ الآب وحده”، ذلك أنّ ابن الإنسان “يجيء (كاللصّ) في ساعة لا تفكّرون فيها” (متّى، الفصل 24).
ليس للإنسان أن يتنبّأ عن نهاية العالم فيغامر بضرب مواعيد لذلك. وقد حذر يسوع تلاميذه من أمثال هؤلاء واصفًا إيّاهم بالأنبياء الكذبة والمسحاء الدجّالين. فما على المسيحيّ سوى أن يكون حاضرًا في كلّ لحظة لمجيء الربّ. ثمّة نصّ قديم في تفسير إنجيل متّى، مجهول كاتبه، يقول: “ما السبب لإخفاء موعد الموت عن الإنسان؟ يكون الموعد مخفيًّا عن الإنسان ليعمل الصلاح دومًا، متوقّعًا الموت في أيّة لحظة. كذلك أخفي موعد مجيء المسيح الثاني عن العالم لتقضي الأجيال حياتها متوقّعةً عودته”.
“فاسهروا، لأنّكم لا تعرفون أيّ يوم يجيء ربّكم”. يقول القدّيس هيلاريون أسقف بواتييه (+367) في تفسيره للآية ما يأتي: “يعلّمنا الربّ أنّ لجهلنا موعد عودته (الذي حجبه عن الجميع بصمته) منافع، يحثّنا على السهر للعمل بوصاياه. علينا أن ننشغل بالصلاة الدائمة لنتدارك تسلّل السارق… فيحسن بنا أن نكون مستعدّين. جهلنا موعد مجيء المسيح يجب أن يحثّنا على التيقّظ، إذ ننتظر مجيئه بتلهّف”.
حين تتحدّث الكنيسة عن مجيء المسيح الثاني، لا تقصد القول بأنّ المسيح قد أتى منذ ألفي عام ثم غاب كلّيًّا على أن يعود في نهاية الزمان. فالمسيح حاضر في كنيسته، ولم يغب عنها للحظة. لذلك على المسيحيّ أن يحيا وكأنّ نهاية العالم قد حلّت، فالكنيسة صورة عن الملكوت الآتي، المسيح حاضر فيها عبر الأسرار المقدّسة وعبر كلمته الحيّة. فماذا ينتظر أكثر من ذلك؟ أمّا المقصود بالمجيء الثاني فهو حين يظهر المسيح ثانية للعيان أمام كلّ الشعوب.
وما يؤكّد ما قلناه هو أنّ العلامات التي ذكرها المسيح في جوابه على الرسل، إنّما هي علامات تكرّرت عبر التاريخ، حتّى في كلّ جيل من الأجيال. أجل، هذه العلامات نلقاها في كلّ زمان ومكان منذ خلق العالم، الحروب والمجاعات والأوبئة والزلازل والفيضانات… ولا ننسى أنّ أولى الحروب الكونيّة قد حدثت حين قتل قايين أخاه هابيل، نصف الدنيا قتل نصفها الآخر! والأوبئة من الطاعون إلى الإنفلونزا الإسبانيّة إلى السيدا وإنفلونزا الخنازير، والكوارث الطبيعيّة من فيضان نوح إلى التسونامي الأندونيسيّة… لكلّ جيل حروبه وأوبئته وكوارثه الطبيعيّة. لذلك هذه العلامات تخدم تنبيه المؤمنين إلى الصلاح والتوبة، وليست قطعًا لإعلامهم بأوان انقضاء الزمان.
الإثم المهيمن على العالم اليوم ليس جديدًا، لذلك لا يمكن التكهّن باقتراب موعد النهاية بناءً على ما يجري من أحداث اليوم، وبخاصّة في بلادنا الممتدة من دجلة والفرات إلى البحر الأبيض المتوسّط. فالرسول بولس يقول: “واعلمْ أنّه ستأتي في الأيّام أزمنة عسيرة يكون الناس فيها محبّين لأنفسهم وللمال، صلفين متكبّرين شتّامين، عاصين لوالديهم ناكري الجميل فجّارًا، لا ودّ لهم ولا وفاء، نمّامين مفرطين شرسين أعداء الصلاح، خوّانين متهوّرين. أعمتهم الكبرياء، محبّين للذّة أكثر منهم لله، يُظهرون التقوى ولكنّهم ينكرون قوّتها. فاعرضْ عن أولئك الناس” (2 تيموثاوس 3، 1-5).
الحديث عن نهاية العالم لا يمكن الانتفاع منه عبر تفسيره تفسيرًا حرفيًّا، بل يجب اعتباره دعوة دائمة إلى التوبة والصلاح. ثمّ أليس موت كلّ إنسان هو، بالنسبة إليه، نهاية العالم؟! بمَ يختلف، بالنسبة لأحدهم، موته وحيدًا أو موت ستّة مليارات بشريّ معه في الوقت ذاته؟! فلماذا نشغل ذواتنا بشأن لا قرار لنا فيه أصلاً؟ عدم معرفتنا بالمواقيت رحمةٌ عظمى من لدن الله.
الأب جورج مسّوح
موقع ليبانون فايلز، 10 آب 2016