رأس السنة، وفق الكنيسة الأرثوذكسيّة، لا يقع في الأوّل من شهر كانون الثاني، بل في الأوّل من شهر أيلول. فللكنيسة تقويمها الخاصّ الذي يتضمّن أزمنة المواسم والأعياد والاحتفالات، والشعائر والصلوات والأصوام المتّصلة بها. أمّا الغاية من هذا التقويم فهي مساعدة الإنسان على بلوغ القداسة عبر تذكيره يوميًّا بأهمّيّة الجهاد الروحيّ في سبيل الوصول إلى “العيش في حضرة الله الدائمة”.
اختارت الكنيسة أن تقرأ في هذه المناسبة نصًّا من إنجيل القدّيس لوقا، حيث يقول المسيح في فاتحة رسالته البشاريّة: “إنّ روح الربّ عليّ، ولأجل ذلك مسحني، وأرسلني لأبشّر المساكين، وأشفي منكسري القلوب، وأنادي للمأسورين بالتخلية وللعميان بالبصر، وأطلق المهشّمين إلى الخلاص، وأكرز بسنة الربّ المقبولة” (لوقا 4، 16-22).
تتضمّن هذه الآيات الإنجيليّة “جدول العمل” الذي أتى المسيح إلى العالم من أجل تحقيقه. فبعد أن كشف يسوع عن هويّته بأنّه “مسيح الربّ” الممسوح بالروح القدس المستقرّ عليه، أعلن أنّ المحبّة والخدمة المجّانيّة هما الطريق إلى الخلاص. لم يدعُ يسوع إلى إهمال العالم ومآسيه في سبيل حياة فرديّة روحيّة تقوم على العبادات وحسب، بل دعا إلى الالتزام بشؤون المعذَّبين والمنبوذين والمضطَهدين والمظلومين والفقراء والمساكين…
ليست المسيحيّة، إذًا، كما يعتقد بعضهم عن خطأ، مجرّد رسالة “روحيّة” لا تعنى بشؤون الدنيا والناس. بل هي دعوةٌ إلى جعل عالمنا الحاضر عالـمًا أفضل، عالـمًا تسوده القيم الإلهيّة، وفي مقدّمها المحبّة والرحمة والسلام والعدل. لكنّها، في المقابل، لا تهمل أهمّيّة الجهاد الروحيّ في سبيل هذا العالم الأفضل.
كيف تكون سنتنا المقبلة سنةً مقبولة لدى الربّ؟ كيف تكون نهاراتنا وليالينا المتراكمة مقبولة؟ تقول المسيحيّة إنّ الله خالق الزمان والمكان قد صار إنسانًا تامًّا ليجعل الإنسان إلهًا بالنعمة لا بالجوهر. في المقابل، يلبّي مَن شاء من البشر هذه الدعوة الإلهيّة، فيسعون إلى تقديس حياتهم عبر تكريس أوقاتهم لاستباق خيرات الله الآتية وعيشها في زمانهم الحاضر. القداسة لا تكتمل من دون تضافر الحياة الروحيّة مع الحياة العمليّة المتجسّدة في الواقع اليوميّ.
من النافل القول إنّ المسيحيّة لا تؤمن بالحظّ، ولا بالنصيب، ولا بالصدفة. الإنسان هو الذي يصنع حظّه، لا الكواكب ولا النجوم ولا فنجان القهوة… وفي يد هذا الإنسان وفي إستطاعته أن يجعل سنته مقبولة لدى الربّ، وذلك بألاّ يختار له نصيبًا سوى الله. مَن كان نصيبه الله لا يخزى ولا يخيب. ولن يكون الله نصيبًا لإنسان إنْ لم يعمل هذا الأخير عمل الله. وبدء الطريق التوبة.
“فانظروا، إذًا، أن تسلكوا بحذر لا كجهلاء، بل كحكماء مفتدين الوقت، فإنّ الأيّام شرّيرة” (رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس 5، 15-16). نعم، الأيّام شريرة، وعلينا أن نكون يقظين كي لا ننقاد إلى منطقها، إلى منطق هذا العالم. ويقول القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+202) ما معناه أنّ الزمن الواقع بين تأنّس المسيح ومجيئه الثاني في الآخرة هو الزمن الذي يُنضج فيه الربّ ثمار التاريخ، أيّ القدّيسين. كيف يمكننا أن نحوّل أيّامنا “الشرّيرة” المقبلة إلى سنة مقبولة لدى الربّ؟ هذا هو رجاؤنا.
الأب جورج مسّوح
موقع ليبانون فايلز، 28 كانون الأول 2016