أسطوانة “الإنجيل الصحيح”

الأب جورج مسّوح Saturday July 1, 2017 181

تقرّ الكنيسة جميعها، منذ نشأة المسيحيّة، بوجود أناجيل تتناقض والأناجيل الأربعة التي تعترف الكنيسة بقانونيّتها وصحّتها. فليس جديدًا أن تطلّ علينا بعض وسائل الإعلام، من حين إلى آخر، لكي تخبرنا عن اكتشاف أناجيل جديدة. وتروّج لهذا الاكتشاف بعناوين جذّابة لا تليق بسوى السذّج والجهلة، من مثل أنّ هذا الإنجيل الجديد هو “الإنجيل الحقيقيّ”، أو أنّ هذا الإنجيل يتضمّن “حقائق” تغفل عنها الأناجيل الكنسيّة… أمّا أصحاب هذه الأحكام المبرمة فلا يقدّمون أيّ براهين علميّة على صحّة كلامهم.

في الواقع، ظهرت في القرنين الأول والثاني عشرات الأناجيل انتجتها جماعات مسيحيّة شتّى. ووجدت هذه الجماعات في ما أنتجته من أناجيل أسانيد تدعم بها إيمانها. من أهمّ هذه الجماعات: الغنوصيّة التي تقول بثنائيّة المادّة والروح، والمسيحيّة المتهوّدة التي لا تؤمن بألوهة المسيح مكتفيّة بالاعتراف بأنّه نبيّ كسائر الأنبياء، وبعض الفِرق المتأثرة بالفلسفة الإغريقيّة كالمشبّهة التي ترفض تجسّد المسيح، والفرق التي رفضت الإيمان بحقيقة صلب المسيح… هذه الجماعات كلّها وجدت في أناجيلها القانونيّة ما تستند إليه لتأييد إيمانها الخاصّ.

لا تنكر المسيحيّة وجود أناجيل منحولة من العصر ذاته الذي دُوّنت فيه الأناجيل القانونيّة. ومَن أراد الاطّلاع على هذه الأناجيل غير القانونيّة فهي منشورة بمئات اللغات، ومنها اللغة العربيّة. وقد قامت بنشرها مؤسّسات كنسيّة ودور نشر مسيحيّة، وآخرها جامعة الكسليك التي نشرت ثلاث مجموعات منها. في هذا السياق يقول القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+202) إنّ عدد هذه الأناجيل لا يحصى. أمّا الهدف منها فمنافسة الأسفار القانونيّة، وإلى اعتبار تعاليم وآراء الجماعات والفِرق المختلفة أو التقاليد والعادات المحلّيّة شرعيّة صحيحة، كما سعت كلّها إلى الإجابة عن مسائل دفاعيّة أو عقيديّة معاصرة مدّعيّة لها سلطة رسوليّة أو أصولاً إنجيليّة ادّعاءً وهميًّا.

هكذا أيضًا انتقت الكنيسة منذ القرن الثاني أناجيلها الأربعة القانونيّة: متّى، ومرقس، ولوقا، ويوحنّا، ورفضت الأناجيل الأخرى التي لا تتّفق والشهادات التي وصلتها من الرسل. وأطلقت الكنيسة على الأناجيل الأخرى اسم “الأناجيل المنحولة”، أي الأناجيل غير الشرعيّة. وتكوّن العهد الجديد من سبعة وعشرين سِفرًا: الأناجيل الأربعة، أعمال الرسل، رسائل بولس ويوحنّا وبطرس ويعقوب ويهوذا، والرؤيا.

قصّة المسيحيّة مع أناجيلها القانونيّة وغير القانونيّة ليست فريدة من نوعها في تاريخ الديانات. فثمّة في اليهوديّة كتابات منحولة أيضًا، أمّا في الإسلام فقد ظهرت في بداياته نسخًا عديدة من القرآن إلى أن تمّ توحيد النصّ الشرعيّ، وأُتلفت النسخ التي اختلفت مع النصّ الـمُعتمد. فهل يجوز إذا وُجدت نسخة غير شرعيّة من القرآن أن يقال إنّ النسخة الصحيحة من القرآن قد وُجدت؟ وبخاصّة أنّها وُجدت في الوقت ذاته مع القرآن الشرعيّ الذي يؤمن به كلّ المسلمين.

لا بدّ من التأكيد على أنّ لكلّ ديانة أو معتقد أو مذهب أن يختار نصوصه المقدّسة، وأن يرفض سواها. وهذا الاختيار يتمّ مرّة واحدة وإلى الأبد، ولا جدوى من التشكيك بنصوص ديانة من الديانات، وبخاصّة إذا أتى هذا التشكيك من جهات يمكن التشكيك أيضًا بنصوصها. ولسنا هنا في صدد الجدال الدينيّ بقدر ما نحاول التذكير بمسلّمات دينيّة لن يغيّرها أيّ طارئ جديد يتناقض وجوهر الإيمان المتوارث منذ النشأة الأولى.

لذلك يسعنا القول إنّ ما قد يُعثر عليه من كتابات أو مخطوطات تتناقض وما ورد في الأناجيل القانونيّة لا ريب أنّه سوف يسهم أكثر في كشف نواحٍ من المسيحيّة الأولى قد اندثرت، لكنّه بلا ريب لن يزعزع إيمان الكنيسة بالعهد الجديد كما وصلها من عهد الرسل، هذا العهد الجديد الذي وحده يتضمّن التعليم المستقيم عن يسوع المسيح.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،1 تموز 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share