الوقح هو “مَن قلّ (بل انعدم) حياؤه واجترأ على اقتراف القبائح ولم يعبأ بها”. هو، أيضًا، “مَن يتصرّف مع الآخرين بجسارة لا تحفّظ فيها، فيُظهر قلّة احترام تجرح الشعور”. هو مَن “لا حياء فيه ولا مراعاة، غير لائق يؤذي الذوق”.
عصرنا بات عصر الوقاحة، ليس في السيرك السياسيّ وحسب، حيث تكثر الأمثلة والوقائع، بل طاولت الميدان الدينيّ أيضًا. الأبيض يصبح أسودَ، والأسود أبيض. ارتكاب المفاسد، الذي صار شأنًا طبيعيًّا، يستحقّ التصفيق من الجماهير المحتفية بذكاء زعمائها الشيطانيّ من قادة ورؤساء وحاملي ألقاب أضحت بلا معنى في أيّامنا الحاضرة.
أصبحت الوقاحة السمة الأولى، وبلا منازع، التي يحلو لبعض القادة الدينيّين أن يظهروا بها أمام المجتمع. ومن أهمّ وجوه هذه السمة التي يفخرون بها، إنّما هو العصمة التي يدّعونها لأنفسهم. هم لا يخطأون، القدّيسون يخطأون، وهم حاشا لهم أن يخطأوا. تراهم على يقين بأنّهم آلهة على الأرض متى ارتدوا لباسهم الدينيّ، الأسود أم المزركش، لا فرق. “اللبوس لا تصنع القسوس”، فكيف تصنع هذه اللبوس القدّيسين؟ العصمة الوظيفيّة وقاحة.
يصل مستوى الوقاحة في المجتمعات الدينيّة حدّ انقلاب المفاهيم، حدّ اعتبار الشرّ خيرًا والخير شرًّا. وهذا معنى كلام الربّ يسوع حين قال: “كلّ خطيئة وتجديف يُغفر للناس، وأمّا التجديف على الروح القدس فلن يُغفر الله” (متّى 12، 31). كان أستاذي بالتفسير الكتابيّ، حين كنتُ طالب لاهوت، يقول إنّ جعل الخير شرًّا والشرّ خيرًا هو المقصود بالكلام على التجديف، وهو الذي لا يُغفر للناس. تكثر الأمثلة في هذا المضمار، لكنّنا نكتفي بمثل واحد: ألا يمكننا اعتبار الاهتمام بالحجر والحديد، وإهمال الفقير والمحتاج، تجديفًا على الروح القدس؟ أليس من الوقاحة الاحتفاء بالمظاهر الدينيّة على رؤوس الجبال وإهمال المساكين والمعوزين؟
قلنا إنّ الوقاحة هي نقيض الحياء. قال الربّ يسوع: “لأنّ مَن يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الأثيم، يستحي به ابن البشر متى جاء في مجد أبيه مع الملائكة القدّيسين” (مرقس 8، 38). الوقاحة تحضر حين تحضى الازدواجية المتناقضة مع نفسها في تصرّف المسيحيّ مع العالم. هو يفخر أنّه مسيحيّ، لكنّه في حياته اليوميّة قد اتّخذ قرارًا بأنّ القيم المسيحيّة لا تنفع في التعامل مع العالم. يقول عن قناعة راسخة: “إذا لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب”، فيما المسيحيّة على النقيض من ذلك تقول ما معناه: “فلتكن حملاً وديعًا، ولتأكلك الذئاب. وإيّاك أن تكون ذئبًا”. الإنسان المسيحيّ، والقيادي المسيحيّ، صنع لنفسه مسيحيّة تؤمّن له مصالحه الشخصيّة، ووضع الإنجيل جانبًا، لأنّ الإنجيل مقلق. أليست هذه وقاحة موصوفة؟
مشكلة الوقاحة هي أنّ صاحبها يطلب من الجميع امتداحه والثناء عليه، متغافلين عن رؤية وقاحته وقلّة حيائه. يريدك أن تقدّسه، أن ترفعه إلى مقام الذين لا غبار عليهم، إلى مقام الآلهة. إيّاك أن تنتقده بكلمة. مَن أنت، أصلاً، كي تنتقده؟ هو المحاط بالاتباع، لا فرق إن كانوا أغبياء أو نصف أذكياء، يتصرّف معهم بجسارة لا تحفّظ فيها، جسارة تبلغ حدّ الطلب إليهم أن يتصرّفوا بعكس ما كان يعلّمهم إيّاه! هنا تبلغ الوقاحة ذروتها، إذ الوقح المدرك تمامًا أنّه وقح يهدّدك برعاعه كي تمجّده، لئلاّ تصيبك سهامه السامّة. هذه هي ذروة الوقاحة. أمّا نحن، فنقول مع الشاعر:
إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه / ولا خير في وجه قلّ ماؤه
حياءَك فاحفظْه عليك وإنّما / يدلّ على فعل الكريم حياؤه
الأب جورج مسّوح
“النهار”،23 أيلول 2017