لنصنع فلسطين على صورتنا ومثالنا

الأب جورج مسّوح Saturday July 29, 2017 188

منذ أن وطئت أقدام روّاد المستعمرين والمستوطنين اليهود أرض فلسطين، تنبّه المسيحيّون إلى أنّ هؤلاء القادمين من أصقاع الدنيا كافّة ليسوا دعاة سلام ووئام مع أبناء الأرض، بل جنود يبتغون ارتكاب أشنع الجرائم من أجل الاستيلاء بالقوّة على الأرض. هم يريدون الأرض، ولا شيء آخر سوى الأرض، لذلك استباحوا العباد والبلاد، وارتكبوا المجازر، وأفرغوا القرى والبلدات من أهلها… وما زالوا على السياسة ذاتها.

وقف المسيحيّون والمسلمون معًا للدفاع عن حقّهم بالوجود، وعن حقّهم بالعودة إلى ديارهم. وقفوا جانبًا إلى جنب حين كان النضال تغلب فيه الصبغة الوطنيّة والمشاركة التامّة على قدم المساواة. لم تفتر عزيمة المسيحيّين حين بدأت تغلب الصبغة الإسلاميّة على النضال في فلسطين، غير أنّهم وقفوا “وقفة حقّ” عام 2010، وقالوا رأيهم جهارًا بأنّهم مع حقّ المقاومة، لكنّهم، في الآن عينه، أعلنوا أنّهم ضدّ قيام “دولة دينيّة”، إسلاميّة أو يهوديّة، في فلسطين.

“وقفة حقّ” (kairos Palestine) وثيقة أصدرتها نخبة من المسيحيّين الفلسطينيّين، رجال دين وعلمانيّين، أرثوذكس وكاثوليك وإنجيليّين، عام 2010 أجمعوا فيها على حقّ الشعب الفلسطينيّ بالسلام والعدالة والحرّيّة، وعلى حقّهم بدولة مدنيّة مستقلّة لكلّ أبنائها. نعود إلى تلك الوثيقة، اليوم مع ما يجري في القدس، كي نذكّر بأنّ النضال المسيحيّ ليس طارئًا، وليس مجرّد انفعال مع ظروف راهنة، بل هو متأصّل في الفكر المسيحيّ كما في الحياة والواقع. واسمحوا لنا، هنا، أن نستعين بمقالة لنا عنوانها “شكرًا فلسطين” (النهار، 14 آذار 2010) أوجزنا فيها ما يتعلّق بحقّ المقاومة، والحقّ بالمواطنة الكاملة غير المنتقصة.

نعيد قراءة الوثيقة بعد أكثر من سبع سنوات على إصدارها، فنجد أنّ شيئًا من ممارسات الدولة الإسرائيليّة لم يتغيّر ولم يتبدل. نقرأ المقدّمة فنظنّ أنّها تعرض لواقع الفلسطينيّين الراهن من انعدام للحرّيّة، ومن جدار فاصل “حوّل مدننا وقرانا إلى سجون”، ومستوطنات “تنهب أرضنا باسم الله وباسم القوّة”، ومذلّة يوميّة “عند الحواجز العسكريّة”، واستحالة في الوصول إلى الأماكن المقدّسة، ومخيّمات مليئة باللاجئين، وسجون تغصّ بالأسرى، وتجريد للمقدسيّين من هويّاتهم، ومصادرة للبيوت، وعجز عربيّ، وحقوق للإنسان منتهكة، وهجرة… وترفض الوثيقة ادّعاء الإسرائيليّين “تبرير أعمالهم على أنّها دفاع عن النفس”، وتعتبر هذا الادّعاء بمثابة قلب الواقع رأسًا على عقب. وتقرّ الوثيقة بحقّ الفلسطينيّين بالمقاومة، “فلو لم يكن الاحتلال لما كانت هناك مقاومة”.

ثمّ تدعو الوثيقة المسيحيّين إلى الثبات في مقاومة الاحتلال، “فالمقاومة حقّ وواجب على المسيحيّ”. غير أنّ هذه المقاومة تخضع لمنطق المحبّة وعدم مبادلة الشرّ بالشرّ، لذلك تعتمد سبيل اللاعنف طريقًا إلى استرداد الأرض والحرّيّة والكرامة والاستقلال. في هذا السياق تقرّ الوثيقة بجدوى العصيان المدنيّ والمقاطعة الاقتصاديّة والتجاريّة للاحتلال وسحب الاستثمارات منه… لكنّها تكنّ كلّ الاحترام والتقدير “لكلّ مَن بذل حياته حتّى اليوم في سبيل الوطن”. الوثيقة تتبنّى نهج اللاعنف ولكنّها في الوقت عينه لا تدين المقاومة المسلّحة. هي دعوة إلى تعدّديّة في المقاومة تسمح لكلّ فرد بأن يقاوم بما يتناسب مع قناعاته.

أمّا الخيار المسيحيّ بشأن الدولة الفلسطينيّة الموعودة أو بشأن دولة إسرائيل فواضح، إذ ترفض الوثيقة “الدولة الدينيّة، اليهوديّة أو الإسلاميّة”. فالدولة الدينيّة “دولة تفضّل مواطنًا على مواطن وتستثني وتفرّق بين مواطنيها”. وتدعو الوثيقة إلى دولة تكون لكلّ مواطنيها، دولة تقوم على “المساواة والعدل والحرّيّة واحترام التعدّديّة، وليس على السيطرة العدّديّة أو الدينيّة”. لا ريب في أنّ الوثيقة هنا تعبّر عن رأي مسيحيّ عامّ يرفض الدولة الدينيّة أيًّا كانت تسميتها. فهو ملتزم بالنضال ضدّ إسرائيل الدولة الدينيّة العنصريّة، لا لتقوم مكانها دولة إسلاميّة تنتقص من مواطنته، بل ليحيا في دولة مدنيّة عصريّة تحترم حقوقه كمواطن تامّ له ما لسواه وعليه ما على سواه من المواطنين.

الصورة التي جمعت في القدس المسيحيّين والمسلمين ليست صورة للذكرى، ولا صورة عابرة. هي صورة راسخة تعبّر عن وحدة الشعب الفلسطينيّ دفاعًا عن حقّه بالحياة. صورتهم تذكّرنا بالكلام الإلهيّ: “لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا” (تكوين 1، 26). وصورة الله في الإنسان، وفق التراث الكنسيّ، ليست سوى الحرّيّة. صورتكم، أهل فلسطين، هي صورة الله المستعادة، هي الحرّيّة. كونوا هذه الصورة، تكن لكم الحرّيّة.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،29 تموز 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share