نشأت الكنيسة يوم العنصرة، وهو اليوم الخمسين لقيامة يسوع المسيح من بين الأموات. في هذا اليوم يحتفل المسيحيّون بحلول الروح القدس على التلاميذ (أعمال الرسل 2، 1-11). فبدأوا، وهم الأمّيّون، ينطقون بلغات عديدة. وكان كلّ عابر، إلى أيّ قوم أو بلد انتمى، يسمعهم يتكلّمون بلغة بلده. هذه الموهبة الجديدة، النطق باللغات، قد وهبهم الله إيّاها كي ينطلقوا إلى نشر الإيمان في العالم كلّه، ولدى الأمم كافّة.
رأى بعض المفسّرين في ما جرى يوم العنصرة نقيضًا صارخًا لما جرى في بابل. ففي بابل، تقول الرواية الكتابيّة، شرع “أهل الأرض” ببناء برج رأسه إلى السماء، فبدّدهم الربّ وبلبل لغتهم “حتّى لا يفهم بعضهم لغةَ بعض”، ولذلك سمّيت تلك المدينة “بابل”. صحيح أنّ النصّ الكتابيّ يغفل ذكر السبب الذي دفع الربّ إلى تشتيت أهل بابل وبلبلة ألسنتهم، إلاّ أنّ التفسير السائد يقول إنّ ذلك كان بسبب كبرياء الإنسان وظنّه أنّه يمكنه أن يكون إلهًا هو بدوره.
أمّا في العنصرة فبتنا نرى الإنسان يفهم على أخيه الإنسان. فهل لقّن الروح القدس لغات جديدة للرسل أم أنّهم ظلّوا ينطقون بلغتهم الأمّ لا بلغات جديدة، وكان المستمعون إلى أيّ أمّة انتموا يفهمون عليهم بلسانهم الخاصّ؟ مهما كان الجواب، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الفهم المتبادل بين الناس لا يخضع بالضرورة لشروط الصرف والنحو، بل يكمن أصلاً في لغة المحبّة المنسكبة في الحياة كلمةً وحياةً. وكم قيل إنّ السلوك أهمّ من الكلمة، أحيانًا، لنشر البشارة.
إذا كانت بابل رمزًا للعداوة ما بين الناس، واغتراب بعضهم عن بعض، وانقطاع أيّ كلام بينهم… تبرز العنصرة رمزًا للمحبّة، والحوار، والفهم المتبادل، ونشر البشارة. مَن يرفض الحوار ويدين المتحاورين إنّما يرفض عمل الروح القدس والشهادة للحقّ. هو يرفض أن يسمع الآخرون صوته، ويرفض أن يسمع صوت الآخرين. هو يرفض الكلمة ناطقةً كانت أو مسموعة. هو يصبح، بذا، من أهل بابل لا من العنصرة.
يوم العنصرة هو يوم الإلغاء الرسميّ لاحتكار الله من الشعب اليهوديّ ومن أيّ شعب آخر. لا يمكن أحدًا من الشعوب أو من الأديان أن يحتكر الله ويمنعه من الآخرين. إنّها لتجربة رهيبة يمرّ بها المؤمنون، وبخاصّة المنتمون إلى الأديان التوحيديّة، حين يرفضون الاعتراف بأنّهم والآخرين يعبدون الإله نفسه. نعم، الإله هو نفسه، لكنّ النظرة إليه تختلف من دين لآخر، ومن مذهب لآخر، ومن إنسان لآخر حتّى ضمن الدين الواحد.
لا يسع أحدًا أن يضع حدًّا لحركة الروح أو لعمل الله في الكون. لا قيود دينيّة أو عقائديّة أو تاريخيّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة يمكن أن تعيق حركة الروح. فالروح ليس أسير ديانة ما، وليس أسير مذهب أو طائفة ما، وليس أسير العوامل التاريخيّة والثقافيّة والحضاريّة التي جعلت بعضهم يعتنق هذا الدين، وبعضهم الآخر يعتنق دينًا آخر. الروح، وتاليًا الله، لا يُتوارث كما يُتوارث الاسم واللغة والهويّة الوطنيّة والمناطقيّة…
يعدّد القدّيس بولس الرسول ثمار الروح ذاكرًا منها “المحبّة والفرح والسلام والأناة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والعفاف” (غلاطية 5، 22-23). ونلاحظ أنّ الإيمان ثمرة من ثمار الروح العديدة، لكنّه ليس الثمرة الوحيدة، ولا الأولى قبل سواها، بل المحبّة هي الأولى. الروح يعمل في مَن يعطي هذه الثمار إلى أيّ دين انتمى. هذه هي العنصرة الحقيقيّة.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،3 حزيران 2017