يستفيق العالم من حين إلى آخر إلى قضيّة هي، وفق تعريفه، قضيّة الأقلّيّات الدينيّة والعرقيّة في بلادنا. يستفيق هذا العالم للقضيّة هذه عندما تتعرّض إحدى الجماعات، ولا سيّما المسيحيّون، لاعتداءات على كنائسهم أو بلداتهم، وما ينتج عنها من قتل وتدمير وتهجير…
ينساق المسيحيّون، أو غالبيّتهم، عن علم منهم أو عن غير علم، إلى هذه الاستفاقة غير البريئة في معظم الأحيان، إلى حدّ أنّ بعضهم تستهويهم تأدية دور الضحيّة الدائمة والأبديّة، مع اختلاف هويّة الجلاّدين من حقبة إلى أخرى، منذ صلب المسيح إلى يومنا الحاضر، وإلى الأبد ربّما.
هذا الدور بات لا يليق بهم وحدهم. هم وسواهم من سكان بلادنا ضحايا عنف متعدّد يجد جذوره في التطرّف الدينيّ، والاستبداد العسكريّ، والتسلّط الدكتاتوريّ، وحكم الحزب الواحد، والتقوقع المذهبيّ والطائفيّ، والصراع على النفط، وإنشاء دولة إسرائيل، وإنكار قيمة الفرد الإنسانيّ لحساب الجماعة…
يميل المسيحيّون، بعامّة، إلى حصر أسباب العنف الذي يستهدفهم بالتطرّف الإسلاميّ، فيما تراهم يتغافلون عن ذكر العوامل الأخرى المسبّبة للعنف، وبخاصّة العنف الذي مارسته وما زالت تمارسه الأنظمة القائمة بحقّ شعوبها. بل يذهب بعضهم إلى الاعتقاد الراسخ بأنّ هذه الأنظمة هي الضمانة الوحيدة لوجودهم وبقائهم في أوطانهم.
هذا الاختزال غير المنصف يؤدّي إلى حصر المعاناة لدى المسيحيّين، وكأنّ غير المسيحيّين يحيون حياة راغدة هانئة لا تعتريها شائبة. هذا العمى الإراديّ الذي لا يرى إلى معاناة السوريّين جميعهم، مسلمين ومسيحيّين ولامنتمين، لا يمتّ بصلة إلى حقيقة ما يجري في تلك البلاد.
أمّا ما يحكى عن “مؤامرة تفريغ الشرق من المسيحيّين”، وكأنّ لا مشكلة في سوريا سوى وجود المسيحيّين والتأمر على تهجيرهم منها، فهذا كلام لا يستقيم، ومعظم الذين تمّ تفريغهم من سوريا إلى دول الجوار والغرب القريب والبعيد إنّما هم بأغلبيّتهم الساحقة من المسلمين. هذا الكلام لا يستقيم أيضًا لأنّ معظم المناطق المستهدفة سكّانها هم بغالبيّتهم مسلمون.
لا يمكن، إذًا، اختزال أسباب العنف بأحد هذه العوامل وإغفال العوامل الأخرى. المسيحيّون كسواهم من مواطنيهم يدفعون ثمن عقود من السنوات بات العنف فيها ثقافة راسخة من بديهيّات الحياة اليوميّة. فكيف يمكن إغفال عقود من حكم المخابرات والعسكر، ومن هيمنة الحزب الواحد، ومن قمع الحرّيّات، وانتهاك حقوق الإنسان، في سبيل حصر العنف بالعامل الإسلاميّ دون سواه، أو في سبيل القول بأنّ ثمّة مؤامرة تستهدف المسيحيّين دون سواهم؟
لن يُقضى على المسيحيّين في أوطانهم إن هم لم يسهموا في القضاء على وجودهم وحضورهم. عاش المسيحيّون في ظلّ الدولة الإسلاميّة ثلاثة عشر قرنًا، ولم يغادروا بلادهم. وغير صحيح أنّهم كلّهم لجأوا إلى الجبال الحصينة خوفًا من فتك المسلمين بهم، فمعظم المسيحيّين عاشوا في المدن واختلطوا بالمسلمين وتقاسموا وإيّاهم الحياة المشتركة.
المسيحيّون هم شركاء المسلمين في كلّ شيء، في السرّاء وفي الضرّاء على السواء. وكلّ سعي للفصل ما بين معاناة المسيحيّين ومعاناة المسلمين إنّما هو سعي مفتعل وغير واقعيّ، ويضرّ تاليًا بالشهادة المسيحيّة التي لا تميّز ما بين بني البشر بناءً على الدين أو العرق أو الجنس. كما ينبغي التذكير بأنّ لا مستقبل للمسيحيّين في بلادهم من دون المسلمين. الشراكة المسيحيّة الإسلاميّة قدر محتوم لا مفرّ منه.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،10 حزيران 2017