الألفيّة الثالثة

الأب جورج مسّوح Sunday January 31, 1999 192

مع دخولنا في العام 1999 بعد الميلاد، يدخل الناس في حمّى الاحتفالات ببدء الألفيّة الثالثة. مع العلم أنّ العلماء مختلفون في تحديد بدء الألفيّة الثالثة، فمنهم مَن يقول إنّها تبدأ مع اليوم الأوّل من العام 2000 ومنهم مَن يقول إنّها تبدأ فجر العام 2001! ما هو معنى هذه الإحتفالات؟ وهل يمكن أن تغيّر وجه العالم إلى الأفضل؟ هل سينقص الشرّ في العالم وسيزيد الخير؟ هل ستنتهي حروب البشر ومطامعهم بعضهم ببعض؟ هل سيشبع الجائعون ويلبس الفقراء والمساكين لمجرّد أنّنا في ألفيّة جديدة؟ هل سيكفّ البشر عن ارتكاب الخطايا؟

إنّ ما يثير تحفّظاتنا على الاحتفالات الكنسيّة بما يسمّى اليوبيل الألفيّ الثاني لمجيء المسيح يتلخّص في أمور عدّة، أهمّها: معنى التعييد، أسلوبه وهدفه، وجدواه.

العيد في المسيحيّة هو استحضار الحدث كما تمّ في التاريخ وعيشه مجدّداً، الآن وهنا (hic et nunc)، وليس العيد مجرّد ذكرى سنويّة لحدث قديم انتهى بمرور الزمن. من هنا، في أيّ إطار يأتي تعييد الألفين؟ نتذكّر في القدّاس الإلهيّ “المجيء الثاني المجيد”، أيّ أنّ هذا المجيء الثاني قد تمّ بالفعل ولا ننتظره إذ نتذوقّه في القدّاس. لماذا إذاً تعييد تراكم الأيام والسنين؟ ونحن في اللاهوت لا في السلوك، نجلب الآتيات إلى الآن. ونسوق هنا هذا التمييز بين اللاهوت والسلوك، ذلك أن ثمّة انفصامًا عميقًا عند المسيحيّين بين لاهوتهم وواقعهم ليست هذه العجالة بوضع معالجته.

أخشى أن أظنّ أن يكون الإحتفال باليوبيل احتفالًا بتأخّر المجيء الثاني.-المنظور- للمسيح؟ هل المسيحيّون توّاقون بالحقيقة إلى أن تسود مملكة الله في العالم أم لا؟ هل همّ توّاقون بالحقيقة إلى أن يملك المسيح عليهم؟ المسيحيّ حين يصلّي الصلاة الربّيّة يتوسّل الملكوت، “ليأتِ ملكوتك”، ولكن أيننا من العمل لتطبيق هذه المقولة؟ كان المسيحيّون الأوّلون يصلّون :” تعالَ أيّها الربّ يسوع”. ألا نرى في مسيحيّي زمننا هلعًا حين يسمعون بمجيء المسيح؟ عوض أن يدعوه إلى المجيء يطلبون إليه أن يرجئ مجيئه. نحن نعلم أنّ بعض النسّاك كانوا يطلبون أن يمدّ الله بعمرهم حتّى يتعلّموا التوبة، أمّا عامّة الناس اليوم، فلأمور أخرى يطلبون ذلك. ألا يندرج التعييد للألفين في هذا الأطار؟ عالم بلا مسيح ملكًا خلال عشرين قرنًا! ألا يستأهل هذا التعييد؟

أمّا إذا عيّدنا فكيف نعيّد؟ هل هناك في الواقع فرقٌ بين أعياد المسيحيّين وأعياد غيرهم من الناس؟ ألم يسيطر نظام الاستهلاك على كلّ ما هو احتفالات دينيّة؟ فمثلاً، عيد الميلاد (ميلاد المسيح الفقير الغريب العاري) قد جعلته الثقافة المعاصرة رمزًا للتعييد الدنيويّ من هدايا وأشجار وزينة وأضواء وعشاء فاخر. هل ستعتمد الكنيسة، رسميًا، هذا النمط من الاحتفالات إذا قرّرت تعييد الألفين، أم أنّه سيكون مناسبة لمراجعة الذات ومحاسبتها، وتاليًا التوبة إلى الله والعودة الدائمة إليه. هل ستكون هذه المناسبة فرصةً لنقيس أنفسنا بالمسيحيّين الأوائل، ولنرى اين أصابت الكنيسة وأين أخطأت خلال ألفي سنة، أم أنّها ستكون فرصة للإفتخار والتكبّر؟

الكنيسة مدعوة، اليوم، إلى مواجهة مجتمع التجارة والإستهلاك، والذي يدخل في منطقه التعييد للألفين، بدعم المشاريع والمؤسّسات التي تعنى بالفقراء والمحتاجين، حتّى تكون “في العالم وليست من العالم”، حتّى تكون شاهدة لربّها.

مجلة النور، العدد الأوّل 1999، 2-3

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share