دخل حديثًا في المصطلح العالميّ تعبير “العولمة” أو “الشوملة” – بحسب البعض – للإشارة إلى نمط جديد يسود العلاقات بين الدول والأفراد في غروب القرن العشرين. وبإيجاز كليّ تتحدّد العولمة بسيادة نمط واحد، هو الأميريكيّ، على كلّ وسائل الحياة والأفكار والمبادلات التجاريّة والاقتصاديّة والاستهلاكيّة والنظم السياسيّة.
تتعدّد أسباب هذا الطغيان، ومنها سقوط الاتّحاد السوڤياتيّ – غير مأسوف عليه طبعًا! – والأنظمة التي تدور في فلكه، بعد أن أثبتت فشلها في عدم توفير حياة فردوسيّة لساكنيها؛ وصعود نجم ما يسمّى “النظام الدوليّ الجديد” بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، التي اعتبرت أنّها المنتصرة الوحيدة في الحرب “الباردة”، ولذلك تتصرّف اليوم وكأنّها القائد الفعليّ الوحيد للعالم. أمّا منظّمة الأمم المتّحدة فغائبة أو مطوّعة للإرادة الأميركيّة. وإذا رأينا في إنشاء منظّمة الأمم المتّحدة إرادة دوليّة تعترف بالتعدّديّة السياسيّة والمساواة بين كلّ دول العالم، من الصين إلى ليشتنشتاين، فإنّنا لا نرى في وضعها على هامش الأحداث سوى هيمنة أحاديّة واستعمار أميركيّ يطال العالم كلّه. وعندنا، في موضوع العراق وخضوع أوروبا الكامل لأميركا في قضيّة يوغوسلاڤيا، دليل ساطع على الاستكبار الأميركيّ.
لا تنحصر أسباب السيادة الأحاديّة على العالم في المجال السياسيّ، بل تتعدّاه إلى المجال الإقتصاديّ، ومن ظواهره البنك الدوليّ والأوامر التي يصدرها على أصحاب الدول والمعالي. هذا إذا لم نتحدّث، في هذا السياق، عن سيادة “الجينز” على اللباس و “الماكدونالد” على وجبات الأكل السريع و “الكوكاكولا” على السوائل …!
لكنّ الأخطر في هذا المجال هو الأحاديّة الثقافيّة التي دخلت عقر دُورنا. فبتنا نرى هيمنة الأسلوب الأميركيّ من خلال الأفلام الّتي تغزو شاشاتنا وعقولنا، فصارت قيمهم – السلبيّة فقط من عنف وانتقام ونمط حياة جنسيّة وأخلاقيّة وتربويّة – هي قيم مجتمعاتنا، فأهملنا قيمنا.
غير أنّه لا بدّ، في هذا السياق، من الاعتراف بأنّ اختراع الأنترنت – إذا أحسنّا استعماله – والبريد الإلكترونيّ قد جعلا هذا العالم الكير قرية صغيرة، بحيث يجعل كلّ باحث يدخل إلى كلّ مكتبات العالم ومراكز البحوث والمتاحف والجامعات إذا ما رام الاطّلاع على العلوم والنهل منها. هذا أمر ممتاز، ولكن هنا أيضًا تبرز أحاديّة لغويّة إذا لم تكن تمتلكها فلا تستطيع مواكبة التطّور. طبعًا، البقاء للأقوى!
ما هو موقفنا من هذه التحدّيّات؟ ما مصير الأرثوذكسيّة في هذا العالم الحديث؟ كيف نواجه مسألة العولمة؟ هل بالتقوقع والتحصّن خلف متاريس التراث والتاريخ؟ طبعًا لا، لأنّ الخوف لا يؤدّي إلاّ إلى الفشل. كيف إذاً، وبخاصّة أنّ السيّد قد دعا إلى العولمة قبل ابتكار المصطلح الحاليّ حين قال لتلاميذه: “إذهبوا الآن وتلمذوا كلّ الأمم معمّدين إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متّى 28: 19)؟
ثمّة ميادين عدّة يتوجّب على الأرثوذكس الخوض فيها ومواجهتها وإعطاء أجوبة عنها، وبخاصّة في النطاق الأنطاكيّ في الوطن والمهجر. أهمّ هذه التحدّيّات يتعلقّ بعيش التعدّديّة الكاملة ضمن الوحدة الأرثوذكسيّة الكاملة. هذا ينبع من لاهوتنا الذي يشدّد على الوحدة ضمن التنوّع في الثالوث الأقدس. وهل من معنى للاهوتنا إذا لم تكن له ترجمة حياتيّة وسلوكيّة تجاه الذات وتجاه الآخر؟ من هنا يمسي النموذج التعدّديّ في هذا العالم الأحاديّ ضرورة قصوى، وهو درس قد نستطيع إعطاءه إلى العالم.
الأمر الثاني هو احترام التعدّديّة الثقافيّة والحضاريّة والدينيّة، وتاليًا الثقافات والحضارات والأديان كافّة، وما تحمله من تراثات؛ والاستفادة من كلّ نتاجاتها وابتكاراتها والتمييز بين ما هو صالح لنا ولمجتمعنا وما هو مضّر. وهنا لا بدّ من إعطاء أجوبة معاصرة يطرحها أبناء جيل جديد مثقّف، وعنده حسّ نقديّ مميّز لا يجوز الاستخفاف بالإجابة عنها.
يروي الكاتب البوسنيّ دزيفاد قره حسن في كتبه “سراييڤو اغتيال مدينة” (۱) قصّة طبق مشهور في مدينته اسمه “الدولما”، وهو يحتوي على حبّ الفلفل والبطاطا والثوم وورق العنب أو الملفوف والبهارات واللحم المفروم. ويتابع: “ولئن اقتضى أن تحتفظ كلّ مكونّة من الدولما بمذاقها الخاصّ، فقد استوجب أن تؤدّي جميع مكوّناتها مذاقًا جديدًا غايةً في التعقيد، وعصيّا على المقارنة”. ثمّ يؤكّد أنّ “الدولما نتاج ما هو متسامح، إلى حدٍّ يصحّ اعتباره فاسدًا حالما يفقد أحد عناصر مذاقه الأصليّ، أثناء الطهو”. ألا تلغي الثقافة الأحاديّة، إذا استسلمنا من دون تمييز، كلّ نكهة مغايرة قد تعطيها جمالاً تفتقده؟
—————
- ترجمة أنطوان أبو زيد، دار المسار، بيروت، ص 44-45
مجلة النور، العدد الخامس 1999، 226-227