في الموهبة والاختصاص

الأب جورج مسّوح Tuesday September 15, 1998 191

لا ريب أنّ قضيّة إعداد اللاهوتيّين في كنيستنا الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة لشديدة الأهمّيّة، وذلك لتأثيرها المباشر على استمراريّة الإيمان والبشارة في بلادنا. هذا الإعداد اللاهوتيّ عليه أوّلاً أن يلبّي حاجة الكنيسة إلى لغة عصريّة جديدة تحاكي العصر وتتفاعل مع مشكلاته، تتحدّى فلسفاته الدهريّة وتيّاراته الفكريّة المادّيّة ودوّامته الاستهلاكيّة. من هنا تأتي أهمّيّة التخصّص في ميادين علوم اللاهوت كافّة. فلا يجوز مثلاً القول إنّ الإنجيل يحوي كلَّ شيء ولسنا بحاجة إلى دراسة الفلسفات المعاصرة أو العلوم الإنسانيّة لأن الإنجيل نفسه كفيل بالردّ عليها؛ أو أن نكرّر باجترار مملّ غير خلّاق تعاليم الآباء من دون إضفاء نفحات معاصرة عليها تحاكي شباب اليوم … نحن نعيش في زمن – ليس بالضرورة أردأ من أزمان سبقته! – تتصارع فيه الأفكار ويولد في كلّ لحظة فيه ابتكار أو اختراع جديد. فينبغي ألّا نتوانى عن مواكبة الزمن وإيجاد الأجوبة الضروريّة لكل سؤال ممكن أن يطرحه علينا سائلٌ أو متحدٍّ.

هذا يعني أن يكون عتاد الكنيسة مكتملاً لمواجهة هذه التحدّيات، أي أن تتعدّد الاختصاصات لدى الحائزين عليها لتتكامل الطاقات، ذلك لأنّه من المستحيل على أيّ لاهوتيّ أن يدّعي أنّه يفهم كلّ شيء أو يفقه كلّ علم، والله وحده (وَسِعَ كلَّ شيءٍ علمًا). وهذا يتطلّب أيضًا توزيعًا للاختصاصات، لئلا تختار أغلبيّة اختصاصًا واحدًا – لأهمّيّته أو لغير ذلك – على حساب اختصاص لا يدنو منه أحد. وهنا أرى لزامًا على الكنيسة أن تفكّر معًا في ميادين ومسالك لاهوتيّة ما زلنا في طور الحَبْوِ فيها، هذا إذا لم نقل “راوح مكانك”! وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة عانت ولـمّا تزل تعاني قلّة المختصّين والاختصاصات، بينما تسبقها بأشواط، كمًّا ونوعًا شقيقاتها من الكنائس الأخرى.

أين المختصّون في تفاسير الكتاب المقدّس يضعون بين أيدينا تفسيرًا راهنًا؟ أين المختصّون بنشر الفكر الآبائيّ الشرقيّ؟ في الغرب ثمّة جهد حقيقيّ وكبير في هذا المجال (أكثر من أربعمائة مجلّد في سلسلة واحدة)، أمّا عندنا فالجهود خجولة وأغلبها غير علميّ، ولكنّها جهود مشكورة. أين المختصون بالديانات الشرقيّة والبدع العرفانيّة التي بدأت منذ زمن طرقَ ابواب كنيستنا وتهديدها بصوفيّة كاذبة؟ أين المختصون في الليترجيا حتّى يعملوا على تحسين نصوصها ولغتها، ولمَ لا تغييرها؟ أين المختصّون بالديانات الكبرى كالإسلام واليهوديّة، ودراسة هذه الأخيرة تختلف عن دراسة العهد القديم، ذلك أنّ التراث اليهوديّ يمتدّ إلى اليوم ولا ينتهي مع مجيء السيّد المسيح؟ أين المختصّون في تاريخ الكنيسة ينشرون على نطاقٍ واسع تاريخ كنيستنا الذي تارةً نجمّله نحن وطورًا يزوّره الآخرون؟ وتكثر الأسئلة في هذا الصدد.

وهناك أسئلة أخرى تطرح نفسها عندما يوجد ذلك الراغب في الاختصاص: كيف يتمّ اختيار المكلَّف بالاختصاص؟ إلى متى يظلّ اختيار الاختصاص عشوائيًّا؟ لماذا ليس ثمّة خطّة تدرس حاجات الكنيسة لتوجيه الشباب إلى الميادين التي نحتاج إليها؟ (وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ المطلوب ليس أبدًا إلزامَهم باختصاصات لا تستهويهم). هل يجب الاكتفاء بعدد معيّن في كلّ اختصاص، يُغلق بعدها الباب على آخرين يودّون المتابعة والتعمّق فيه، أم يرجى إليهم أن يفكروا في احتمالات أخرى أو أن يصرفوا النظر عن كلّ احتمال؟ هل يُفترض بالمختصّ أن يصير إكليريكيًّا، أم أنّ للكهنوت شأنًا آخر؟ والسؤال الأساسيّ الذي يفترضه السؤال الأخير هو: هل يجد كلّ مختصّ بأحد ميادين اللاهوت عملاً في مجاله عند انتهائه من الدراسة وأين؟ نحن لا نزعم أنّنا نستطيع الإجابة عن كلّ هذه الأسئلة، إلاّ أنّنا نرغب بأن تُبحث بعمق، حتّى لا يُطفأ حماس الشباب الذاهب إلى أثينا أو تسالونيكي أو باريس أو روما أو جامعات ألمانيا … طلبًا للعلم وخدمة الكنيسة. فيذهبون ويأتون بشهادات عليا مع تنويهات من لجان الحكم، وكأنّهم ما ذهبوا ولا أتوا.

هنا أعتقد أنّه على شبابنا أن يقتنعوا بأنّ خدمة الكنيسة تتقدّم على كلّ اختصاص وعلى كلّ علم. فكنيستنا ما زالت، أأحببنا الخطابات الرنّانة أم مججناها، فقيرة بعطاءاتها، على الرغم من وفرة ينابيعها وثراء تراثها. هذا لا يعني إطلاقًا نفي أعمال قام بها أفراد مميّزون قادوا الكنيسة خلال العقود الأخيرة من قرننا هذا، وأُفدنا من تعليمهم وإرشادهم ومثابرتهم على المحبّة. لذلك، ينبغي أن تكون الموهبة موجّهة أوّلاً نحو الخدمة. فإذا تسنّى لنا إتمامها بالتخصّص فليكن، وإلّا فبالتكريس الكهنوتيّ، وإلّا فبالعمل في موهبة أخرى يغدقها الله علينا، وذلك لبنيان جسد المسيح.

مجلة النور، العدد السادس 1998، 278-279

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share