“وكان المؤمنون كلّهم متّحدين، يجعلون كلّ ما عندهم مشتركًا بينهم، يبيعون أملاكهم وخيراتهم ويتقاسمون ثمنها على قدر حاجة كلّ واحد منهم. وكانوا يلتقون كلّ يوم في الهيكل بقلب واحد، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب، ويسبّحون الله…” (أعمال الرسل 2: 44-47).
قامت وحدة الجماعة المسيحيّة الناشئة على اشتراكيّة حقيقيّة غير سياسيّة، هي اشتراكيّة البذل والعطاء وتقاسم الخيرات. قبل الكلام على كسر الخبز (الذي صار في ما بعد يُعرف بالقدّاس الإلهيّ) تحدثّ الرسول لوقا، كاتب سفر الأعمال، عن الجماعة المسيحيّة الأولى مشيرًا إلى أنّ وحدتها تقوم على الوحدة في “الأملاك” والأموال. وإن كانت الوحدة تتحقّق في سرّ الشكر(أي بالمناولة المشتركة)، فالكنيسة وعت منذ البداءة أنّ الاتّحاد بالمسيح لا بدّ عابرٌ أيضًا بالاتّحاد بالفقير والمحتاج والجائع والأسير والمريض والغريب وعابر السبيل… من هنا، حديث السيّد المسيح عن الدينونة حين شرطها بإطعام الفقير وإرواء العطشان وإيواء الغريب وإكساء العريان وزيارة المريض والسجين، ذلك أنّ الاتّحاد بهؤلاء إنّما هو اتّحاد بالمسيح نفسه: “كلّ مرّة عملتم هذا لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي فعلتموه” (متّى 25: 40). كما يحضرنا في السياق عينه حديث الآباء عن القدّاس الممتدّ وغير المنقطع إلى القدّاس التالي وعن “سرّ الأخ”.
ما الداعي إلى هذا الحديث اليوم؟ صلّت الكنائس المسيحيّة كلّها من أجل الوحدة المسيحيّة. والمقصود بالوحدة استعادة الشركة المنقطعة بين أبناء الكنائس المختلفة “الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة والبروتستانتيّة”. لن يكون حديثنا مسلّطًا على الموانع اللاهوتيّة والتاريخيّة والثقافيّة التي تحول دون اتّفاق المسيحيّين، فهذا كُتب عته الكثير وعالجه العلماء والمختصّون، وكلّ سعي في هذا الاتّجاه محمود وممدوح. أمّا نحن فسنكتفي بطرح بعض الأسئلة الأكثر واقعيّة من الأحاديث التي دارت وتدور هنا وثمّة. مع العلم أنّنا لا نريد أن نقلّل من أهميّة الوحدة العامّة التي دعا من أجلها الداعون.
هل الوحدة المسيحيّة محقّقة على صعيد الرعية الواحدة أو بين الرعايا في الأبرشيّة الواحدة؟ ولن نطمح أكثر لنسأل ما إذا كانت محقّقة بين الأبرشيّات الثريّة والأبرشيّات المعدمة؟ نعني الوحدة بين الأغنياء والفقراء، ونحن نرى شساعة الهوّة التي تفصل بين الفريقين. هل ثمّة وحدة حال وتعاون بين أبناء الرعيّة الواحدة؟ أليس الكلام على الوحدة العامّة يشكّل أحيانًا تغاضيًا عن وحدة هي الأهمّ في نظر الربّ؟ كيف يتّحد المؤمنون بعضهم ببعض وبالمسيح أيضًا من خلال المناولة، وهم غير متّحدين في الواقع المعاش، من حيث تفاوت مستوى العيش بين لابسات الفرو والممزّقة ثيابهنّ أو بين المتخم والجائع أو بين القادر على تعليم أولاده في أرقى المدارس وأغلاها وبين الذي لا يستطيع تعليم أولاده حتّى في المدارس الرسميّة؟ لقد جعل الله الرعيّة المكان الأمثل لممارسة الإنسان مسيحيّته، ففيها ينال الأسرار من المعموديّة إلى الميرون والمناولة والزواج… ولكن في الرعيّة أيضًا يُفترض على المؤمن أن يتعلّم المحبّة ويتمرّس بها وأن يتربّى على الاهتمام بهؤلاء المستضعفين والمعذّبين في الأرض فيغسل أقدامهم.
أين المؤسّسات الكنسيّة من هذه الوحدة المطلوبة مع الفقير؟ أليس الفقير مبعدًا عن أغلب هذه المؤسسات المسمّاة بأسماء قدّيسين وقدّيسات، ويديرها كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيّون مؤمنون؟ ما هي علّة وجود المؤسسات الكنسيّة إذا لم تكن عامل وحدة يصل المسيح بواسطتها إلى العالم، فلا تكون بشارتنا مجرّد تكرار كلام وأسطوانات في المحبّة والخدمة من دون مضمون منظور؟ هل المسيح حاضر في المؤسسات أم هو المغيّب الأكبر عنها؟ هل الوحدة محقّقة في هذا المجال؟ فلنسأل الناس.
إذا شئنا وضع سلّم أولويّات بين تحقيق الوحدة العامّة والوحدة في الرعيّة، لاخترنا في الدرجة الأولى، ومن دون تردّد، الوحدة في الرعيّة لأنّها هي الوحدة المنظورة أكثر. إنّ اختزال الوحدة المسيحيّة إلى مجرّد إعادة الشركة من خلال المناولة المشتركة بين كلّ المسيحيّين لهو هروب من مواجهة التحديّ الأكبر الذي يواجه المسيحيّين جميعًا وهو موضوع الاتّحاد مع الفقير. ما أردنا قوله هو أنّنا في سعينا إلى الوحدة العامّة يجب ألاّ نغفل عن موضوع الوحدة الأهمّ التي هي في متناولنا وفي مقدورنا، إذا صُوِّبت الأنظار والأفكار إليها بصدق، نعني بها الوحدة مع الإنسان الذي وضعه الله في وجهنا وأمرنا بخدمته. هذه الوحدة التي، إذا عدنا إلى الينابيع الأولى وقرأنا الإنجيل في صفائه، هي الأكثر آنيّة في نظر الربّ وعليها سنحاسَب وندان.
التنظير اللاهوتيّ أيسر من إطعام الجائع وإيواء المشردّ ومداواة المريض. المحبّة أعسر من العبادة والصلاة.
مجلة النور، العدد الاوّل 2001، 2-3