أتى الأب الياس من اللّاذقيّة ومن حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة الّتي كان أحد مؤسّسيها. اللّاذقيّة، كأهمّ منبع أنطاكيّ للبدايات الحديثة للنّهضة الكنسيّة، بحاجة إلى دراسة خاصّة. أمّا حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة فخرجت إلى حيِّز الوجود من هاجس البحث عن الهويّة الأرثوذكسيّة، في وقت واحد، في اللّاذقيّة وطرابلس وبيروت. في مناخ المدارس الكاثوليكيّة، والحركة الطّالبيّة الكاثوليكيّة، نبتت مجموعة شبّان استبدّ بها هاجس الأرثوذكسيّة، أبرز أسمائها في اللّاذقيّة، كابي سعادة ومرسيل مرقص (الأب الياس)، وفي لبنان جورج خضر (المتروبوليت جورج) وألبير لحّام(المحامي)… كنيستنا، يومذاك، في أربعينات القرن العشرين، كانت في حال من الرّكود. لا شكّ أنّ نشوء الحركة، في تلك الأيّام العجاف، كان افتقادًا إلهيًّا. كانت الكثلكة، بتوجّه مدروس، إضافة إلى البروتستانتيّة، تشكّلان تهديدًا حقيقيًّا للأرثوذكسيّة في هذه الدّيار!.
على هذا، أتى الأب الياس من ثقافة فرنسيّة مميَّزة. معرفته الفرنسيّة، لغةً، كانت ممتازة. قَرّاء جيّد. يعرف الأدب الفرنسيّ. يقرض الشّعر. يعرف الموسيقى الكلاسيكيّة. ما تهمّه معرفته كان يتقنه. هذا حتّى لا نتكلّم على دراسة القانون. الكنيسة عرفها كأسًا مقدّسة وقراءة. قرأ عن الرّهبنة أوّلًا وعزم على تكريس نفسه لها قبل خروجه إلى دير مار جرجس الحرف بزمن ليس بقصير. رتّب، أوّلًا، أمور أهل بيته، وبعد ذلك انسحب. عمليًّا، هجرانُه العالم كان كهجران القدّيس أنطونيوس الكبير. كيف؟. لأنّه لم يكن ثمّة نموذج قبله وأمامه يحذو حذوه، رهبانيًّا. غيرته، على بيت الله، من ناحية، وحركة روح الرّبّ فيه، فعلتا ذلك!.
جاء إلى دير الحرف في العام 1958. قبله بسنة كانت مجموعة أخوات، جلّها لاذقيّ، قد استقرّت في دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع في ددّه. وقبل ذلك بسنوات حاول “جورج خضر”، “بولس بندلي”، و”قسطنطين باباستيفانو”،الاستقرار في دير الحرف ببركة المطران “إيليا كرم”. فلمّا عرف البطريرك “ألكسندروس الطّحّان” بوجودهم، أمر بطردهم فورًا.!!. من جهة أخرى، كان الأب “أنطونيوس منصور المزرعانيّ” (اللّاذقيّة)، الّذي انضمّ، في ما بعد، إلى دير الحرف، قد قام بأولى محاولاته الرّهبانيّة في دير “بكفتين”، لكن الأمور هناك لم تسِر كما يُشتهى. هذا كلّه نما لأنّ الوعي زاد أنّ الكنيسة لا تنهض من دون رهبنة؛ هذا علاوة على درجة مرتفعة من الحماس جعلت الحسّ يزداد بأهمّيّة التّكريس الكامل، وحرّكت الأكباد للخروج إلى الصّحراء، بمعنى!.
البداية، في دير الحرف، كانت قاسية. كان في الدّير كاهن مقامًا عليه اسمه “داود المرّ”. هذا، بقدوم بعض الشّبّان إلى المكان، شعر بخطر إلقائه خارجًا. كان هو الكاهن الوحيد. لذا عامل طلّاب الرّهبنة الجدد بفظاظة. عانى الأب الياس الكثير، حتّى لا نتكلّم على مَن كانوا معه. لكنّهم عاملوا الأب “داود” باحترام كبير وصبر فائق. بذل الأب الياس دمًا ليثبت!. كان هذا لديه من عناية ربّه ليتمرّس في الاتّضاع والصّبر والصّمت والفقر والمحبّة!. أخيرًا، غيّر الرّبّ الإله قلب الكاهن الّذي ما لبث أن مرض، فاعتنى به الرّهبان الجدد عناية كبيرة، وقبل أن يفارق، عبَّر عن محبّته ورضاه وباركهم!.
من الصّعوبات الّتي واجهها الأب الياس، في مطلع رهبانيّته، أنّ الجماعة لم تكن متجانسة لا ثقافيًّا ولا اجتماعيًّا. هذا لم يكن سهلًا!. حال الغربة اقتبلها بوعي كبير وحسّ رهبانيّ مرهف، لكنّها، طبعًا، كلّفته غاليًا!. ثمّ، أوّل الأمر، لم تكن لدى المجموعة فكرة كيف ينتظمون. كانت الرّئاسة دوريّة؛ وهذا خلق جوًّا مضطربًا في الشّركة النّاشئة!. لكن الجماعة تمسّكت بصلاتها وفقرها!. لم تكن الشّركة، أوّلًا، بنظامها، بل بتقوى أفرادها وجهادهم الشّخصيّ!. حتّى، في ما بعد، روح الشّركة لم تَنْمُ، كما يشتهي المرء. أضحى الدّير، إلى حدّ بعيد، هو الأب الياس!. استمرار الدّير، بعده، كان، بلا شكّ، من عمل الله!. بشريًّا، كان يمكن الدّير أن يتفكّك!. فقط عظام مَن ربضوا تحت الكنيسة أمّنوا، بالبركة، استمراره، وهم الأب الياس والأب أنطون والأب أغابيوس، إضافة إلى الشّمّاس اسبيرو (جبّور)!.
وافتقد الرّبّ الإله الدّير بالأرشمندريت “أندره سكريما” الرّومانيّ. هذا خرج إلى الهند في منحة لتعلّم السّنسكريتيّة. وإذ كانت رومانيا في وضع صعب، ولم يشأ الأب “سكريما” العودة إليها، جاء إلى لبنان وبقي فيه سنين يذهب إلى أوروبا وأميركا ويعود. وفي لبنان، أضحى معلّمًا لرهبان دير الحرف. أخذوا منه الكثير، وشكّل ما أخذوه مادّة عدّة مؤلّفات أبرزها كتاب “أصول الحياة الرّوحيّة” الّذي طُبع في ما بعد بعنوان: “في حياة التّوحّد”!. وقد بقي الأب أندره يذهب ويعود إلى أن سقط النّظام الشّيوعيّ في رومانيا، عام 1989، فعاد إليها، وهناك رقد.
تمسّك الأب الياس بحياة الفقر، في النّصف الأوّل من سيرته، تمسّكًا كبيرًا. فقط ما هو ضروريّ، كان لديه نصيب الجماعة. لم يهتمّ بتزيين المكان. عينه كانت على ضبط النّفس وتزيين القلب بالفضائل، على حياة الصّوم والصّلاة. لم تنفتح الشّركة على تجميل الدّير ومشاريع البنيان والزّراعة إلّا لاحقًا لأنّه، على حدّ تعبيره، “هذا ما كان يليق بالرّهبنة”!. شخصيًّا، سلك في التّقشّف ولمّا يبالِ بقنية شيء. بالعكس، ما كان يشعر بشيء من الميل إليه، كان يعطيه أو يتخلّص منه. في المقابل، كان يهتمّ بالعطاء. لم يردّ مرّة سائلًا. يعطيه ولو قليلًا. الفقير كان لديه قضيّة مقدّسة. حكى ما وجده في مخطوط، أوّل ما قدم الدّير، هو وصحبه، أنّ هذا الدّير احترق لأنّ رهبانه كانوا بخلاء.أحد المتردّدين عليه لم يكن له بيت وكان يشتهي أن يكون له ليدبّر أمره وأمر أمّه وأخته. هذا جعله الأب الياس يعمل في الدّير. وإذ أخذ يرتفع مشروع بناء في الضّيعة، ضيعة دير الحرف، شرع يزوّده بالأقساط الشّهريّة لتملّك شقة فيه؛ وبقي على هذه الحال، سنوات!.
الاهتمام بالشّباب كان أساسيًّا لديه. دير الحرف كان عامرًا بالخلوات الرّوحيّة. وكان الأب الياس يخرج ليعطي أحاديث كلّما طُلب منه ذلك. في الكلام والكتابة كان، دائمًا، صاحب قول نافع ومميّز. ما كان يبالي به هو تفتيق المعاني الرّوحيّة، سواء في الكتاب المقدّس، وبخاصّة المزامير، أم في القراءة الرّوحيّة للعبادة واللّيتورجيا. لم يُكثر الكلام. نَفَسُه كان قصيرًا. لكنّه كان يُخرج المعاني من حيث كان القول، لدى الأكثرين، عاديًّا!. يقول الكثير بكلمات قليلة. صوته، بعامّة، كان يميل إلى الضّآلة، خاصّة بعدما ضعفت رئتاه، إلّا عندما تجيش نفسه فيهدر هدرًا!. وفي الكتابة، كان جَلودًا. استغرقت ترجمته لسلّم الفضائل ما يزيد على الثّلاث السّنوات. تجدر الإشارة هنا إلى أنّه كان يمرّر ترجمته على بعض الإخوة والزّوّار، وأنا كنت واحدًا منهم، ليراجعوها له بتواضع كبير. كان يحبّ أن يفيد من قدرات سواه ولم يستخفّ، البتّة، بأحد!.
اهتمّ الأب الياس اهتمامًا ملحوظًا بإصدار نشرة غير دوريّة هي “نشرة دير الحرف”، كما اهتمّ بالتّرجمة والتّأليف. الثّقافة الكنسيّة عنت له الكثير. كلّ الأحاديث الّتي كان يلقيها الأرشمندريت أندره سكريما كان يدوّنها ثمّ يترجمها، لأنّها كانت تُلقى بالفرنسيّة. من هنا، من هذا الاهتمام، نمت منشورات دير الحرف.
عينُ الأب الياس كانت، أبدًا، على مسيح الرّبّ، كما كانت على النّاس. في عينيه دائمًا دمعة!. يفرح مع الفرحين ويبكي مع الباكين!. لم يحمل البتّة ضغينة ضدّ أحد. يُساء إليه ولا يُسيء إلى أحد!. وكانت له صلاته، من الأعماق، من أجل مَن يسألون ومَن لا يسألون…
وتستمرّ القصّة…
الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 19 أيّار 2019