اعتصر الإنجيل وقدّمه بالصوت قرباناً

mjoa Thursday August 20, 2009 400

SayyednaKorbanغدوت لربّك قرباناً ومقرباً”.
(من كلمة الاب جورج خضر في استقبال المطران الياس قربان الى مقامه 1962)

 

أبداً يدفعنا الموت الى رفع تحدي الغياب بالكتابة. نكتب لتثبت الكلمة ان ذكر الحبيب مؤبّد بيننا، بعد ان نكون قد عنينا في الصلاة، فيما نحن نرتل “ليكن ذكره مؤبدا” اننا نتضرع كي تكون سكناه في جوار الله فيكون ذكره بتلك السكنى مؤبدا. لماذا ننتظر الموت لنقول جهارا ما كانت تتمتم قلوبنا وتذوقه ارواحنا؟ ربما لاننا نترقب دائما تجليات لم تظهر بعد وننتظر اكتمال الصورة حتى اذا غاب الوجه اللحمي تظهر الايقونة.

لكن الحال معك يا سيد غير ذلك، انه التواضع الذي تجلببت به، سرا لا يدرك كهنه. لا يوصف بالكم، تواضع طبيعي كأنك لم تجرب بالكبرياء يوما ولم يعرف التعالي اليك سبيلا. استلمته انت “عطية صالحة” من الله وكشفته لنا “موهبة كاملة” كانت هي النبراس الذي اضاء لك الطريق. مشيت بهديه حتى وصلت الينا سيدا، ومشيت به معنا الى العتبات التي تستقبلك اليوم. “تعلموا مني لاني وديع ومتواضع القلب” (متى 29:11)، هذا هو العلم الذي من المسيح. اكلت الكلمة الانجيلية وشربتها حتى الثمالة فكانت رحلة العمر عندك رحلة تواضع ووداعة متصاعدة.

كان لك من تلك التلال والوديان، طعم السكون الكوني. لقد أدركت في الصغر رقة السماء في حنوها على وعورة الارض فيما كانت تصعد وتهبط التلال من “عين السنديانة” الى اعالي “الشوير”، الى دير مار الياس، تقصده مرتلا. روت جدتي وهي من مواليد “عين السنديانة” كيف كان صوت هذا الفتى البالغ من العمر الثانية عشرة يملأ هيكل الطبيعة معمداً اياه باللحن البيزنطي محملا كلاما إلهيّاً. بقي بينك وبين الطبيعة حنان كبير. استبقيت منها النقاوة. نحتتك وعورتها وتغلبت على هذه بحنان السماء، وبه تغلبت على وعورة طرق الدنيا فيما بعد. لاحظت ذلك في استمتاعك باغنية لفيروز قديمة: “الى راعية”، ولعلك اشتففت فيها لمحة انجيلية رعائية: “سوقي القطيع الى المراعي، وامضي الى خضر البقاع، سمراء يا انشودة الغابات، يا حلم المراعي”. الا قادك الله الى “مكان خضرة، مكان انتعاش” هذا الذي حرصت ان تقود قطيعك إلى مثله على هذه  الارض، فكان السلام فيك ومنك انتعاشاً، والخضرة عطاء.

لم تفارقك نقاوة المراعي لا في اميركا التي عرفتها في تلك الايام (1957 – 1962) مجتمعا “مرتباً منظما”، كتبت انك “استفدت الكثير من وجودك في بوسطن، اذ كان التجاوب بين الراعي والرعية قوياً”. وددت لو طالت غربتك، خادماً القوم في مهجرهم. الا ان ربك شاء غير ذلك فانتزعك نداء المجمع المقدس لتحمل الصليب في طرابلس والكورة وتوابعهما. اطعت متهيبا لكنك حافظت على سكونك وميلك الى الخدمة في التواري. من الابنية الشاهقة في بوسطن الى ازقة طرابلس وحارات الميناء المكتظة تخليت عن الخضرة المنعشة التي كانت تشتاقها طبيعتك، يعزيك في غربتك عنها النخيل وتجوالك للخدمة في ارجاء الكورة، زيتونها، وفولها الذي كنت تستطيب ومواسمها الزراعية التي كنت تبارك.

فهمنا في ما بعد ان الفرحة التي استقبلناك بها عند دخولك مدينة الابرشية يوم احد الشعانين 15 نيسان 1962، كانت فرحة انتصار الوداعة على تجاذب القوى المتسلطة، انتصار الكلمة الانجيلية التي اكلت وشربت منذ نعومة اظافرك. عرفنا الآن لماذا هكذا تهيبت. كانت الانقسامات في انطاكية – وانت دارس تاريخها، عالم به – تحزنك جدا، وقد اتي بك حلا لنزاع قائم في الابرشية التي عليها انتدبت. كانت هذه الابرشية مسرحا للنزاعات على امتداد سنوات طوال وعهود متتالية. ومن كان من مطارنتها يصبر حتى المنتهى كانت هذه الابرشية معراجه الى سدّة البطريركية. حللت بيننا غريبا عن كل النزاعات، وفتحت للكل ابواب العمل. “فتيلا مدخناً لم تطفئ” (متى 20:12)، هللت للمواهب انى وجدتها، استنهضت الهمم، شجعتها، سهرت على انضباطها، دعمتها ولما سقطت، اخطأت، افلست او انكسرت رحمتها لم تقم على احد خطيئة.

علمتنا ان نكون كباراً في الايمان، واثقين في العمل، واحراراً من كل زيف وتملق واستعطاف. والى ذلك كنت رجل الشكران والاعتراف بالآخر محترماً كل مقام، مقدرا كل جهد. كنت تهلل لكل عطية صالحة ومبادرة حسنة مهما صغرت، تفرح بها من انى اتت من المسلمين والمسيحيين على السواء، من الكهنة والعلمانيين، من الشيوخ والشبان، من الرجال والنساء، لم تفرق بين العمل، كانوا كلهم على مسافة واحدة من قلبك، اقربهم اليك انفعهم الى عباد الله وصدقه في الخدمة. ايكون غريبا هذا الاجماع والحزن عند الفراق فمهما تنوعت المساحات التي لك في قلوبنا، الا أن الحرقة واحدة.

لم تترك لنا مجالا لنقول لكن مودتنا، كنت تعرفها جيدا في قرارة نفسك، ولكن الخفر منك كان يملي علينا الاختصار: ما كنت ترفض بوحا عن اعجاب او تقدير كي لا تمتدح مرتين وكثيرا ما بدا لنا انك لم تسمعه. ما كنا ندرك في البداية ان الامر تواضع، ظنه البعض خجلا، فتوة، تهيبا، حتى شعرنا انك تفهم السيادة الاسقفية خدمة تبدأ بالعلم. العلم عندك كان راسخا في الاعماق، تعمد بالمحبة الحنونة والصبر، هذا سماه غبطة البطريرك لينا. انى لشهادة التاريخ واللاهوت اللتين تحملهما، ان تكونا اكسيرا للحياة ما لم يكن القلب ملتهبا؟ فهمت كلام الرسول بولس: (1 كو13:1) “ان كنت اتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاسا يطن او صنجا يرن”. علمتنا بالصوت المصلي بسبب الترتيل مرتين، قال بطريركنا: “الكلام لوحده جاف”، انت سقيته من ينابيع الروح التي كنت تنهل منه. روّضتنا على التسبيح بانضباط وعذوبة، مقتّ التنافر والتنافس والانفتاح فالترتيل عندك “روح منسحق، قلب متواضع” حتى لا يرذله الله. لم تكن قدوة فحسب بل كنت قائدا في الترتيل. حملك ترتيل سماعي لفتاة حفظت عنك ما فعله موسى العظيم في ذلك السبت المبارك، فأنشأت اول جوقة من ستة يافعين، مرنتهم بذاتك. لم تستثن الشابات والنساء من ترتيل كان وقفا على الذكور من المؤمنين. بدأت ببساطة من اول حرف في القداس الالهي تضبط الايقاع جامعا الحزم والعذوبة، وطوعتنا حتى سرت الحان التسبيح في نبض عروقنا وفتحت مداركنا للمعرفة الالهية بذوق الالحان بها دخلنا الى فهم الكلام.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share