الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. (٢٤)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday November 3, 2019 229

لم يأتمن الرّبّ يسوع النّاس على نفسه ولم يكن محتاجًا أن يشهد أحد عن الإنسان، “لأنّه علم ما كان في الإنسان” (يوحنّا 2: 25).

كان الأب الياس يعرف ما في النّاس إلى حدّ بعيد، لذا كان له توصيف للإنسان، خاصّ به. قديمًا قيل: “الإنسان حيوان مفكّر (أو عاقل)”، أمّا قولته فهي: “الإنسان حيوان ممثّل”!. ديكارت، الفيلسوف الفرنسيّ، اعتبر أنّه يفكّر لذا هو موجود. الأرشمندريت صفروني سخاروف اعتبر، في المقابل، أنّه يحبّ لذا هو موجود. الأب الياس اعتبر الحبّ علامة الوجود، كما في عين الله. في ما عدا ذلك، الإنسان ممثّل، ووجوده، من ثمّ، إيهاميّ، ذو نَفَسٍ عدميّ (Nihilist )!.

إذا كان أنّ في البدء كانت المحبّة، فإنّ الأرض كانت، أوّلًا، خاوية وخالية. فقط، عندما قال اللهُ المحبّةُ كلمتَه صار هناك إنسانٌ، في خليقةٍ، موجودًا!. بلى، الخليقة كانت من أجل الإنسان، والإنسان أثمن من الخليقة، لأنّ الإنسان كان، دون سائر الخلق، من أجل أن يصير صنوًا للهَ!. “لجّة تنادي لجّة” (مزمور)!. كيف؟. محبّةٌ تستدعي محبّةً، لأنّ الله خلق الإنسان على صورته (حرًّا) ليصير على مثاله (محبّة)!. إمّا الحرّيّة تتكمّل بالمحبّة، وإمّا الوهم (الحرّيّة الشّرود) تنتهي مِسْخًا (محبّة للذّات)!. الخيار، إذًا، هو بين الإنسان الكائن (على مثال الله الكائن) والإنسان الممثّل (على مثال أهواء الهوان)!.

جاء مسيح الرّبّ، الإله المتجسِّد، ليصير نموذجًا للإنسان الجديد!. جديد، ليس لأنّه إنسان آخر، فقد اتّخذ ابنُ الله الإنسانَ عينه، إيّاه، بل لأنّه الإنسان المكتمل، صار آدمَ الجديد!. آدم الأوّل توقّف عند حدود صورة الله. آدم الثّاني هو إيّاه الأوّل، لكنّه صار على مثال الله. لِمَ؟. الأوّل سقط وتشوّه، وإن لم يكن بالكامل، لأنّه حاد عن الوصيّة: شجرة معرفة الخير والشّرّ لا تأكل منها (تكوين)!. عصى ربَّه وخالقَه!. فإنّ الطّاعة أَولى!. وهي الّتي تبلِّغ إلى المثال، إلى المحبّة!. الطّاعة، في سيرورة المحبّة، أرقى من معرفة الـ”لماذا” والعقل وأجدى، لأنّ المحبّة معرفة كيانيّة لا فكرة أو معرفة تجريديّة!. المعرفة التّجريديّة من اللّحم والدّم، فيما المعرفة الكيانيّة من روح الله!. “الجسد لا ينفع شيئًا. الرّوح هو الّذي يُحيي”!. هذا من جهة آدم الأوّل. أمّا آدم الثّاني، يسوع ابن الله وابن الإنسان معًا، فأطاع حتّى الموت، موت الصّليب، فرفعه الله وجعل اسمه فوق كلّ اسم… “لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك”!. لذا أضحى يسوعُ الإنسانَ الأوّل الّذي حقّق نموذج الإنسان كما في قلب الله، فصار هو، أي الرّبّ يسوع المسيح، النّموذجَ، في الرّوح واللّحم والدّم، لكلّ إنسان!. “كلّ روح لا يعترف بيسوع المسيح أنّه قد جاء في الجسد فليس من الله. هذا هو روح ضدّ المسيح الّذي سمعتم أنّه يأتي، والآن هو في العالم” (1 يوحنّا 14: 15- 17). هذا وحده، يسوع المسيح، هو المعطى لنا، لا في اللّحم والدّم فقط، بل في الرّوح أوّلًا، لنسلك في خطاه، لنصير على مثاله، ليسكن الرّوحُ الّذي فيه فينا!. ليس بغيره الخلاص!. إذًا، بغيره الهلاك!. “مَن أراد أن يتبعني فليحمل صليبه كلّ يوم ويأتِ ورائي”!. “إن كنتم تحبّونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزّيًا آخر… روحَ الحقّ…” (يوحنّا 14: 15- 17)!.

كان الأب الياس رجل كيان، يبحث عن الكيان في المسيح، يسعى إلى السّلوك، بكلّ قواه، في خطى المسيح الكيان. هاجسُه، فكره، كلامه، توقه كان إلى الإنسان الكيان على مثال مسيح الرّبّ، إلى تمثّل روح المسيح والله، والتّمثّل بمسيح الرّبّ!. هذه هي الواقعيّة الإلهيّة الأبديّة!. كلّ ما عدا ذلك، في عينه، كان تمثيلًا!. الخيار، خيار الإنسان، لدى الأب الياس، كان بين التّمثّل والتّمثيل!.

كيف نميّز ما بين التّمثّل والتّمثيل؟. التّمثّل يكون ببذل الدّم، بالتّضحية، بالتّعب، بالنّسك من أجل المحبّة، بالأعراق، بالأسهار، بتقديم الإخوة على النّفس، وبروح الله، على غرار مسيح الرّبّ. هكذا يتحقّق التّمثّل. فيما التّمثيل يكون بالخيال، بالإيهام الذّاتيّ، بالاستشعار العاطفيّ، بالبرّ الذّاتيّ، بتقديم الذّات على كلّ أحد، وبروح الضّلال، على غرار إبليس. “التّنّين، الحيّة القديمة [الّتي خدعت آدم وحوّاء في الفردوس]، الّذي هو إبليس والشّيطان” (رؤيا 20: 2)، هو المضِلّ الأوّل وأبو الضّلال!. هكذا يكون التّمثيل. الأوّل ينمو في الحقّ، والثّاني يتدرّج في الباطل!. الأوّل يقول الحقّ ليموت من أجل الحقّ. والثّاني يقول الحقّ ليَقتل، على حدّ زعمه، من أجل الحقّ!. “مَن لا يحبّ أخاه فهو قاتل نفس” (1 يوحنّا)!. كلاهما، أوّل الأمر، يقولان القول عينه، في محبّة القريب. لذا، لا حكم مقبول بحسب الظّاهر!. أمّا الأوّل فينتهي ببذل دمه من أجل قريبه لأنّه “ليس حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه” (يوحنّا 15: 13). وأمّا الثّاني فينتهي بكُره قريبه لأنّ الآخر، في عينه، جحيم (سارتر)!. في الآخِر يستبين الأمر ما إذا كان حقًّا أم ضلالًا، واقعًا إلهيًّا أم خيالًا، ما إذا كان الحقّ قد جرى تمثّله أم تمثيله، ما إذا كان الحقّ دستورَ إيمان أم شعارات خاوية!.

قلنا، كلاهما، في أوّل الأمر، التّمثّلُ والتّمثيلُ، يقولان القول عينه. فقط، في الأخير يستبين الحقّ من الضّلال. لذا نسأل: أما من مؤشّر، من أوّل الطّريق، بشأن ما إذا كان المرء سالكًا في الحقّ أم في الباطل؟. بلى!. إذا كانت عينه على ما لنفسه من فساد، ويتألّم، وعلى ما لقريبه من فساد، ويتألّم أيضًا، فإنّه يكون في الحقّ لأنّ هذا من الحبّ!. أمّا إذا كانت عينه على ما يظنّه فسادًا في قريبه، ويدينه ويشهِّر به كفاسد، ولا يرى فيه أيّ صلاح يُذكر، ويعتبر نفسَه فاضلًا، دون قريبه، بأن يفْضَح قريبَه، فإنّه يكون في الضّلال!. الضّلال يَحكم دائمًا بحسب الظّاهر، ويَقبل كلّ ما يُقال له في خطّ حكمه، وبحسب هواه، دون أن يتثبّت ممّا يقال له!. أمّا مَن كان في الحقّ فلا يدين إلّا نفسه، ولأنّه يدين نفسه لا يدين أحدًا!. ثمّ مَن يعرف أنّ قريبه يسلك في الباطل فإنّه يأتي إليه وينبِّهه كي يُصلح نفسه. فإن اصطلح الضّالّ نجّى نفسه، وبارك اللهُ على المصلِح!. وإن لم يصطلح الضّالّ كان دمه على رأسه، ويكون المصلِح قد عَمِل عَمَلَ المحبّة!. أمّا إذا لم يكن للمرء وصول إلى السّالك في الباطل، بالطّرق اللّائقة المشروعة، فإنّه يلجأ إلى الصّيام والصّلاة، وهو ملتجئ إليها في كلّ حال، عساه يبكي على قريبه حبًّا، وعسى الله يتوب عليه، أي على الضّالّ، إن شاء الله!. هذا حسْبُ القريب لقريبه، لكلّ إنسان، والباقي عند ربّك!. أقول ذلك لأنّ مقاربة مَن هم في الحقّ للعالم هي مقاربة روحيّة بحت، في كلّ حال. المؤمن يسلك في الإيمان، بلياقة وترتيب، بلا تثريب!. وكلّ ما عدا ذلك ترّهات وتفه!. كلّ ما عدا ذلك يسير بالمرء من ضلال إلى ضلال أعظم، ومن معاناة إلى معاناة أعمق، ومن خيبة إلى خيبة أكبر، ومن ألم إلى ألم أشدّ، إلى أن يبلغ المرء حدّ مماثلة مَن كان ينتقدهم، تمامًا، ومهاجمة مَن كان يدافع عنهم، لأنّ ما فيهم فيه، وما فيه هوًى لا محبّة، وهو وإيّاهم لا يعلمون!. “مَن لا يجمع معي”، على قولة السّيّد الرّبّ الإله، “يفرِّق”!.

وجّه الأب الياس نظره شطْر حقّ الإنجيل بكلّ قواه. لا يمكنك أن تعرف الباطل على حقيقته ولا أن تفضحه، إلّا إذا أقمت في حقّ الإنجيل بأمانة!. الباقي وَهْم وتمثيل مهما فعلت!. الباطل دائمًا ما يتلبّس بجلباب الحقّ ليخدع!. والشّيطان يتلبّس بثوب ملاك من نور ليوقِع، كما الذّئب بثوب الخروف ليفترس!. مَن ليس روح الله فيه، لا يميّز، وكيف يميّز؟!. بالعقل؟. هذا، من دون نور الله في القلب، أداة لتطوير التّمثيل، متى شرد الإنسان عن الحقّ!. فلا غرو إن راج سوق التّمثيل والخيال في العالم، واليوم أكثر من أيّ وقت مضى!. هوليود، العالم الافتراضيّ (Virtual world )، التّلفون الموبَيل، السَّلْفي (التّصوير الذّاتيّ)، المسكرات، المخدّرات!… من دون الإنجيل والسّلوك في حقّ الإنجيل، لا حدود تفصل الواقع البشريّ عن الخيال الأحلاميّ!. الإنسان من دون الله يحتاج إلى الحلم وإلّا يموت يأسًا!. ولكن، ما لك بالحلم إلّا الخيبة!. الواقع يمتزج بالخيال، والخيال بالواقع كأنّه واقع!. حتّى في أحرج الظّروف وأشدّها خطرًا، لا يعود بإمكانك أن تميّز، في سلوك الإنسان، بين الواقع المؤلم الّذي هو فيه والدّور التّمثيليّ الّذي يؤدّيه عن وعي!. كأنّك في مأساة تؤدّى، تعبيريًّا، بصورة فولكلوريّة، على المسرح!. ينشغلون بالإعلام، بالكاميرا، بالصّورة الشّخصيّة، لا فقط للتّرويج لقضيّة، أيًّا تكن القضيّة، سياسيّة أم اجتماعيّة أم شخصيّة، بل لحبّ الظّهور، للسّبح الباطل، للتّمجيد، للعظمة أيضًا!. المأساة في نينوى أدّت إلى الحزن الكبير، إلى الصّوم والصّلاة، إلى المسوح والرّماد، هذا لأنّهم تمثّلوها توبةً إلى ربّهم وإصلاحًا لطرقهم. أمّا المأساة للممثّلين، للخياليّين، فتُغنّى. لتتحرّك المشاعر، ولتتخدّر معًا، لتَسيل الدّموع، ليدور التّصفيق، ليَبرز الممثّلون باسم القضيّة، ليرقصوا، ليلهوا، لتصبح المأساة “مهضومة” بمعنى!. “مهضومة” بالمعنى الحرفيّ والتّصويريّ معًا!. ومَن يكون المصفِّق الأوّل والمهرِّج الأوّل؟. مُخرج المسرحيّة، صاحب المسرحيّة، مموّل المسرحيّة!. لا مسرحيّة من دون ممثّلين ومُخرج!. كأنّها حقيقيّة تمامًا!. من هنا نجاحها!. والنّاس يشترونها!. فكريًّا، يشترونها!. “فيلم” يحرز نجاحًا عظيمًا!. عن الفقير، عن المظلوم، عن الفساد!. وبالنّتيجة، يزداد الفقير فقرًا، والمظلوم ظلمًا، والفاسد فسادًا، فيما يُحفَظ الفيلم، بشأنه، في أرشيف ما!. والأغلب أن يُنتسى!. لا ذاكرة للخياليّين!. هم، دائمًا، في الذّهن، غير مَن مرّوا قبلهم من حالمين!. لا فردوس هنا!. الفرح في المسيح!. في المسيح وحده، يسير الإنسان من فرح، بالضّبط، في الحزن والدّموع والمآسي الإنسانيّة، أقول من فرحٍ إلى فرحٍ إلى الفرح!. الفرح، هنا، جزئيّ!. الفرح الكامل هناك!.

فلأنّ الأب الياس كان يشتهي أن يقيم في الحقّ، بعيدًا عن أوهام العالم، وتمثيليّات العالم، أقام في “صومعة” يبكي على نفسه والنّاس… آدم باقٍ، خارج الفردوس، يبكي إلى أن يعود، بالتّوبة، إلى ربّه، ساعتئذٍ يثبت فيه عربون الفرح!. فقط إذ ذاك، هناك، يسمع الصّوت الّذي طالما اشتهاه، ولا يكون الصّوت من الخيال: ادخل إلى فرح ربّك!.

… لتستمرّ القصّة!.

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 3 تشرين الثّاني 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share