ملكوت الله هو في داخلكم (لوقا ١٧: ٢١)

Ibrahim Rizk Tuesday March 24, 2020 1052

ممّا لا شكّ فيه أنّ الكنيسة المقدّسة واجهت خلال الألفَي سنة من تاريخها أوقاتَ شدّة وصعوباتٍ وضيقٍ عظيم، بدءً من الاضطهاد والسيف مرورًا بالغزوات البربريّة واضطهاد السلاطين..والقائمة تطول….

بل إنّ معاناة المؤمنين لم تكن دائمًا بسبب أفعال البشر بل أحيانًا بسبب عوامل الطبيعة كالزلازل والجفاف والأوبئة والأمراض التي طالَتهم مثلهم مثل باقي الناس وكانوا في كلّ مرّة متمسّكين بحفظ إيمانهم، ملتزِمين تدبير كنيستهم حتّى ولو اضطرّوا لترك كلّ شيء وراءَهم بما في ذلك أرضهم وكنائسهم الجميلة والبديعة والتي بقيت بقاياها شاهدةً على إيمانهم وإبداعهم. وعلى سبيل المثال، بقايا قلعة سمعان العموديّ وكنائس أفاميا (شمال سوريا) وهما خير دليل على ذلك.

كانوا ينتقلون ويقيمون صلواتهم ويُحيون الأسرار المقدّسة مع أساقفتهم وكهَنتهم حيث مرّوا أو استقرّوا، فيُصلّون في خِيَمهم أو في بيوتهم أو في العراء، لأنّهم يدركون، كيانيًّا، أنّهم هم الكنيسة وأتباع المصلوب حيثما حلّوا..

فالحقيقة أنّ المؤمنين يواجهون الشدائد، ولا سيّما الشدائد في زمن انتشار الأمراض والأوبئة، بالصلاة والحكمة والوعي الرّوحيّ…

وما نواجهه في منطقتنا والعالم، اليوم،من تفشٍّ لمرض الكورونا، ليس أمرًا مستجِدًّا على المؤمنين.. فالجماعات البشريّة ومنها الكنيسة واجهَت عبر التاريخ عشرات الأوبئة التي استمرّ بعضُها قرونًا. وهنا نذكر على سبيل المثال وباء الطاعون الذي أصاب الامبراطوريّة البيزنطيّة زمن الإمبراطور جوستنيان، فعُرف تاريخيًّا باسم طاعون جوستنيان، حينذاك انتشر هذا الوباء القاتل على أوسع نطاق، واجتاح بلادًا عديدة حتّى أنّه أصبح علامة مميّزة في التاريخَين السياسيّ والطبيّ، على السواء إذ يكاد يُجمِع المؤرّخون إنه كان أحد عوامل انهيار الإمبراطوريّة الرومانيّة البيزنطيّة والمؤسس لضعفها وزوالها..

وممّا يرويه لنا بروكوبيوس مؤرّخ  البلاط الإمبراطوريّ لجوستنيان عن هذا الوباء كشاهد عيان: “بدأ الوباء بأرض مصر عام 540، ثمّ انتقل حتّى وصل مدينة القسطنطينيّة التي كانت تستورِد كمّيات كبيرة من الحبوب من مصر لإطعام سكّانها، فالسُّفُن التي كانت تنقل الحبوب نقلَت إليها العدوى، وقد بقيَ الوباء في القسطنطينيّة أربعة أشهر، وكان يموت خلالها في كلّ يوم ما بين خمسة إلى عشرة آلاف إنسان. إنّ الناس كانوا يصابون بالحمّى وهم نيام أو وهم يعمَلون، والأحياء كانوا أقلّ من الأموات. فالمُدن قد أقفرَت من سكّانها، والقرى خلَت من أهلها، والحقول لا تجد مَن يعتني بها، ولم يبقَ سوى الفقر والمرَض والموت”…

انتشر الوباء على طول موانئ البحر الأبيض المتوسّط، مرورًا بالأراضي الأوروبّية، وصولًا إلى الدنمارك شمالًا وإلى إيرلندا غربًا. واستمرّ تفشّي الوباء بشكل محلّي ومتفرّق حتّى حوالي العام 767م، ومن بين ضحاياه البابا بيلاجيوس الثاني الذي رقَد سنة 590.

في ذلك العصر كانت العلوم عمومًا والطبّ خصوصًا في حالة بدائيّة غيبيّة مقارنة بحجم تطوّرها اليوم، ما جعل الامبراطوريّة، رغم كلّ الجهود الكبيرة التي بُذلت، عاجزة عن مواجهة وباء قوَّض أركانها وسَهّل ضربها وإزالتها…

اليوم يواجه العالم بأسره وباء الكورونا، وقد أجمعت كلّ من المنظّمات العالميّة والجامعات ومعاهد الأبحاث والأجهزة الحكوميّة، على أنّ لا سبيل لتجنّب انتشار هذا الوباء إلّا الاعتزال في البيوت وتجنّب الاختلاط، رغم كلّ الخسائر الاقتصادية الهائلة والانهيارات الماليّة المتوقَّعة. وذلك يبقى أقلّ كلفة من انتشار المرض وانهيار القطاعات الصحيّة والعجز عن تقديم أيّة خدمة طبّية.

إنّ التدبير الوقائيّ الذي اتّخذته الكنيسة الانطاكيّة الأرثوذكسيّة والمعبَّر عنه في البيان الصادر عن بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق ورؤساء الكنائس المسيحيّة في لبنان وسوريا، من أجل الحدّ من انتشار الوباء وتاليًا حماية المواطنين ومنهم أبناء الكنيسة والحفاظ على سلامتهم وحياتهم التي هي هبة من الله، وذلك بوقف كلّ أشكال التجمّعات والحدّ منها في الصلوات والقداديس، هو أبويّ وضروريّ وملحّ لا يحتاج لأيّ تبرير وإلّا – لا سمَحَ الله- ستصير حال بلادنا تشبه القسطنطينيّة كما وصفَها المؤرّخ بروكوبيوس عندما اجتاحها طاعون جوستنيان …

فيروس كورونا يستهدف الإنسان ولا يستهدف الإيمان ..

علينا في الكنيسة إذًا حماية الإنسان دون أن نخسَر الإيمان..

المحنة ستزول والكنيسة ستبقى وتستمرّ، وهي في كلّ مرّة تدعونا أن نحفظ الإيمان وتاليًا أن نواجه كمؤمنين الصعوبات والتحدّيات المستجِدّة باستنباط وسائل وآليّات جديدة تمنحنا المزيد من النعمة والخبرة والحضور كالشهادة وممارسة فعل المحبّة … ولأنّ العائلة كنيسة، فنحن مدعوّون اليوم كمؤمنين لمواجهة إجراءات الحظر الوبائيّ بسبب كورونا بالعودة لتفعيل الكنيسة التي في بيت كلّ واحد منّا.. فنعيشَ، في زمن الصوم، خبرة الصلاة الفرديّة بالمشاركة العائليّة والتزوّد بزاد الإنجيل والكُتب الروحيّة.

ونتعلّم من التاريخ الكنسيّ خصوصًا أنّ خِبرة المؤمنين في زمن الأزمات تبقى زادًا في الكنيسة يُنقل من جيل إلى جيل يُغذّي و يُغني كثيرين.

ابراهيم رزق

2 Shares
2 Shares
Tweet
Share2