ألطاعة … هل كذبوا حين تكلّموا عليها!؟ أم أنّنا لم نفهمها بعد!!؟
أجدُ نفسي اليومَ بين المطرقة والسندان، فوابل التصاريح والمنشورات التي تُرمى، كفيلٌ بتشتيت الذهن، لكن ليس القلب؛ فالقلب ينبضُ بيسوع، ويتألّم وهو يراقب المصلوب على شاشة التلفاز. قد يثورُ القلبُ، إلّا أن هذه الثورةَ تُفهم وتُبرّرُ لأنّ دافعَ الحبّ جليٌّ، ولكنّ واجبَ الطاعة يخمد فورًا هذه الثورة.
ولا بدَّ، عند التكلّم بهذا المنطق، مِن أنْ يظهرَ فجأةً مُتمرّسٌ في الصيد بالمياه العكرة، ليُسارع الى السؤال: “واجب الطاعة؟! وهل الطاعةُ واجب؟!”. وستشهد انقساماً بينَ من يُصغي لما ستقول، وبينَ من لن يسمحَ لأُذنيه أن تُصغيا إطلاقاً. وهنا تكمنُ المُعضلة الكبرى اليوم، معضلةُ القدرة على الصمت والإصغاء.
عندما كان الرب على الصليب كان يُصغي فقط، لم يكن يتكلّم. حتّى الجُمل السبع التي فاه بها على صليب حبّه كانت كلّها صدى لصمته الجميل الجبّار النابع من فضيلة الطاعة.
تُعاني المؤسّسة الكنسيّة اليوم من ضُعفٍ في لغةِ الصمت؛ بينما تُعاني الجماعة الكنسيّة من ضُعف في لغة الطاعة.
حين كان اليهود يحاكمون الرب، كان الرب صامتاً، ولم يتكلّم بل تابع المسيرة الخلاصيّة بصمتٍ عظيم. تُرى ما الذي كان يجول وقتها في داخله من أفكار وأفكار؟! لا تُتعب نفسكَ في البحث، فما من أمر كان يجول في داخله سوى الوصول إلى الصليب واقتبال الموت بجلدة، بلطمة، بحربة، ببصاق وباستهزاء. كلُّ هذه كانت سُبلاً تُفضي إلى الموت على الصليب، لذا كان الصمتُ اللغةَ الأبلغ.
إنً فعل الصمت الذي قام به الربّ ينبثقُ من طاعته للآب. أحبّ الربّ آدم فأطاع حتّى الموت. نعم أطاع، والطاعة هُنا ليست أمراً عسكريّاً، بل لفظةٌ تحمل في ثناياها عشقاً وحُباً سرمديّاً، كي يعودَ آدم لسُكنى الملكوت، للبيت الأبويّ. سأل أباه أن يجيز عنه تلك الكأس المُرّة، لكن “لتكن مشيئتكَ لا مشيئتي”.
عذراً لكلّ شروحاتكم عن الطاعة، فاللفظة جميلةٌ أكثر ممّا كنتُ أتصوّر. أفهمها على أنّها الفِعل الإراديُّ المحتومُ التنفيذُ بدافع العشق للآخر، لأخيكَ الإنسان. الطاعة هي الترجمةُ لحبّك لهُ وليست ترجمةً لولائِكَ؛ وإذا كنتَ تُجادل بشأن الطاعة وبحتميّة التنفيذ، فيبدو أنَّكَ قد تعلَّمتَ هذه اللفظة على مقاعدَ أكاديميّةٍ أو عسكريّة في مكان ما. أمّا إذا تعلّمتها على مقاعد الكنيسة التي فيها “نحيا ونتحرّك ونوجد”، فلا بُدَّ لكَ مِنْ أنْ تصمتَ لتصغيَ للحبِّ الغزير النابع من قلبكَ، والمُتردِّد صداهُ في أفعالكَ. وكونُكَ تحيا وتتحرّك فعليكَ أن تطلبَ وتُلحّ، فيسوعُ قال: “اطلبوا تجدوا”. عليكَ أن تطلب بمحبّة التلميذ الحبيب الذي وهبه الربُّ البنوّة للعذراءِ مريم، ورفعه جاعلاً منه ابناً ووريثاً للحياة الأبديّة. عليكَ إذاً أن تطلبَ،”فالملكوت يُغتصب اغتصاباً”، عليكَ أن تطلب دون أن تغفلَ أنّه في نهاية الأمر “لتكن مشيئتك”، وهكذا تتكلَّلُ محبتكَ بإكليل فضيلة الطاعة.
نواجه اليوم أعنفَ تحدٍّ لذواتنا في طاعتنا لحبّنا، لأنّنا حين نفقد القدرة على الحبَّ، نفقد القدرة على الطاعة.
الياس توما