مطر فوق الدير العالي

أسعد قطّان Sunday February 21, 2021 278

أسعد قطّان

لقد أمطرت ذلك اليوم، كما تمطر كلّ سنة في شباط فوق الجبل العالي. تلع الماء المنهمل تنفلش رذاذًا باردًا على السقف البلاستيكيّ الذي نصبوه خصّيصًا للمناسبة. صخب الماء المنصبّ ينسرب في الآذان، ويثقبها. صوت الأُسقف الذي يؤمّ الخدمة ضعيف، رغم مكبّرات الصوت. الماء يغلّف كلّ شيء. يغلّف كنيسة الدير والبشر المتكدّسين أمام أبوابها. يغلّف الهواء والشجر والحفافي والأدراج والحجارة القديمة والجديدة. يغلّف الوجوه والأيدي والأسماء التي نتذكّر أصحابها، أو لا نتذكّرهم.

السحب ترجم السقف بذرّات عنيدة تريد اختراقه. ضجيج الماء أقوى من مكبّرات الصوت، وأشدّ وقعًا في النفوس من عظة الأُسقف التي لم نسمع منها إلاّ بضع كلمات. لا يهمد الماء الهاطل رويدًا إلاّ ليعاود من جديد، قاسيًا، وقحًا، ينفذ إلى الأشياء جميعها. لا شيء مستغرب! هكذا تمطر، كلّ سنة، في شباط فوق الجبل العالي، فوق الدير العالي. والعجائز يستفظعن هذا الشهر الماكر، ويتكوّمن في أسمالهنّ بانتظار الربيع. فإذا أقبل العيد الكبير، أعتق البشر والحجر من القبوع في الغلاف القارس، وحرّرهم من انتظار الموت.

لا شيء مستغرب! وحدهم البشر الذين تقاطروا ليودّعوا الشيخ، يصنعون الاستثناء. فساحة الدير لا تشهد، في العادة، مثل هذه الجمهرة الصامتة، الحزينة، رغم تصاعد تراتيل القيامة من جوف الكنيسة. شباب أنطاكية، حين يؤمّون الدير، وهم يؤمّونه بغزارة، يهرعون إليه بغبطة العاشق، يتصايحون، ويتدافعون، رغم أنف الصمت الرهبانيّ، يصطخبون، ويتهاتفون، في هذا الألق السحريّ الذي يسيل من الأيقونات، من السماء والحقول، من المصاطب والدواوين العتيقة، ومن جبب الرهبان الفضفاضة. أمّا اليوم، فالصمت الهاطل من السماء يغلّف كلّ الأشياء.

يكاد لا يتذكّر شيئًا من كلماته، كأنّ الشيخ لم يكن يومًا هنا، أو كما لو أنّ الكلمات الكثيرة في الكتب الكثيرة التي سطّرها ما انبثقت منه. وهو كان يتردّد تردّدًا جمًّا في خلع اسمه الشخصيّ، حتّى في شكله الرهبانيّ، على كتاب، مستعيضًا عنه باسم الرهبنة العموميّ. ولعلّه لم يقبل ظهور اسمه على غلاف كتاب إلاّ بعدما طعن في السنّ، وأدركته الشيخوخة. لماذا قبل؟ هل مردّ ذلك خوفُهُ البشريّ الطبيعيّ من الاندثار، أم يقينه أنّ العُجب الذي ربّما يتأتّى من اسم شخصيٍّ مطبوع على الصفحة الأُولى في كتاب عاد لا قِبَل له ببلوغ قلبه؟

لماذا لا يتذكّر الكثير من كلماته؟ لماذا يوشك ألاّ يتذكّر سوى الصمت، والجلد المجعّد بالزمن، الوجه المدعوك بصلوات منتصف الليل، والعينين الغائرتين؟ حين كان طالبًا في البلمند، لطالما يمّم الشيخ وجهه شطر معهد اللاهوت، ليعلّمهم »أصول الحياة الروحيّة«. غالبًا ما سمعه يستحثّهم على تحليل النصوص الليتورجيّة بلا وجل. وحين تخرّج وغادر، بقيت كلمات الشيخ هناك، تلتصق ببياض الجدران، منتظرةً من يلمّها عن الطاولات الخشبيّة وواجهات الزجاج التي ما تزال، إلى اليوم، تطلّ على المتوسّط.

»نريد أن تحدّثنا عن الرهبنة، أيّها الشيخ«، قال له أحدهم ذات مساء.

»نعيش في الرهبنة منذ أربعين سنة، ولا نعرف ما هي«، أجاب الشيخ، وضحك.

صعقه الجواب. يومها، قال في ذاته: »إنّه الفرق بين نبيّ جبران الذي يعرف كلّ شيء وأنبياء متصـوّفة الروم الذين لا يعرفـون شـيئًا«. السـذّج يحسـبون هـذا تواضـعًا. أمّا الذين اختبروا الأشياء، فيدركون أنّ الجهل هو المعرفة الكبرى.

الكهنة يحملون النعش الخشبيّ. أياديهم المرفوعة إلى السماء، مثل زنابق الحقل، تضطرب. أسياخ المطر تنغرز في جوخ قنابيزهم، وفي حلوقهم. المطر الهاطل يهطل، لا ينقطع، لا يرحم، كمن ينتقم من كلّ الدفء الذي هيمن طيلة الصيف فوق الجبل العالي، فوق الدير العالي. يحملون النعش، ويحملقون في البعيد البعيد. يريدون أن يكونوا أقوياء، أقوى من المطر، أقوى من بخار الحزن المتصاعد بين البشر الذين تكوّموا هنا رغم البرد. يحملون من حملهم بالصلاة يومًا بعد يوم، طلبةً بعد طلبة، قربانةً بعد قربانة، كأسًًا بعد كأس. لا يبكون. لا ينتحبون. يصمتون فقط. وحين يتكلّمون، يستحثّون الجموع، بلطف، على إفساح الطريق. لكنّ لونًا دامسًا ينبعث من وجوههم المقطّبة المكفهرّة. لا يبكون. لا ينتحبون. لكنّهم لا يجرؤون على النظر إلى خشب النعش.

»تعطيني حلّ الخطايا، أيّها الشيخ«؟

أوعز إليه الشيخ أن يجثو. ثمّ بسط يمناه على رأسه، وتمتم صلاةً تنسكب منها المغفرة. كان ذلك في إحدى غرف الاستقبال في البلمند.

»ألا تضع بطرشيلاً، أيّها الشيخ، وأنت تتلو صلاة الحلّ«؟ قالها بذكاء من يحسب نفسه عارفًا.

لا يتذكّر الجواب. يزيّن له أنّ الشيخ قال إنّه كاهن حتّى بلا بطرشيل، أو إنّ الكاهن يصنعه اللَّه، ولا تصنعه الثياب الليتورجيّة.

لماذا لا يتذكّر الكثير من كلماته؟

تضاءلت زياراته إلى الدير العالي في السنين الأخيرة. الشيخ يعرف أنّه اتّخذ، ولو على مضض، شيئًا من مسافة. لم يسأله يومًا عن الأسباب. ربّما أدرك، بحسّه المرهف، أنّه حزين لما كان يستشعره من أنّ بعض من أحاطوا بالشيخ ينحى عليه باللائمة بلا تدقيق. لكنّ الصفو، حين اللقيا، أتى كاملاً، لا يعكّره غضن. فالشيخ يعرف أحابيل الشيطان، وهو علاّمة في كسر الحواجز: »لم ننقطع عن الصلاة من أجلك، نذكرك في كلّ قدّاس«. أدرك، يومها، معنى أنّ الشيخ لا يأتي إلاّ من الكأس المقدّسة، أي من المصلوب مباشرةً، بلا وسائط، وأنّه أرفع من أن تكون له حاشيةٌ، أو أولاد يردّدون أقواله كالببّغاء، أو رفوف من الرهبان تحوم حوله. وعرف يقينًا أنّ الشيخ يعشق الحرّيّة التي وهبها اللَّه للبشر، ولا يعتبر نفسه وصيًّا على أفكار أحد ولسانه، حتّى من غالى في اللصوق به.

يخترق النعش صفوفنا. المسجّى فيه يقود من أحبّوه وحملوه ورفعوه إلى ظلمة القبر، حيث له موعد مع فرح عارم لا يذوي. ثمّة عيون تحدّق في الصندوق الخشبيّ المجنّح فوق الأذرع المتجلببة بالسواد الكهنوتيّ، وتذرف دمعة. وثمّة من يبكي ولا يحدّق. بعضهم يبكي بلا بكاء. وبعضهم لا يبكي. وبعضهم يفرط في الحديث رغم هيبة اللحظة، لأنّه عثر بين الجموع على أحبّة له حضروا من بعيد، أحبّة لم يكحّل عينيه برؤيتهم منذ زمان سحيق. يعرف أنّ الشيخ، لو كان بعد بيننا، لما أزعجه هذا. ويعلم بأنّه يستعذب أن يجمع اليوم، في موته، من لم يجتمع طوال السنين الأخيرة المنصرمة، وهو بعد حيّ، سواء بدافع السفر أو بسبب الانشغال الكثير.

يخترق النعش صفوفنا. المسجّى فيه ينسلّ في ما بيننا. بعضهم يلتفت، أو لا يلتفت. بعضهم شرع يستعدّ للرحيل. يطوفون بالنعش ظامئين رغم المطر المنهمل كتلاً. إبر الماء تنخر أثوابهم. تحزّ في ثنياتها. يقضمون أصواتهم بألسنتهم وشفاههم، لئلاّ تعكّر الصمت حشرجة. يرفعون أنظارهم إلى النعش باحثين عن صلاة بلون المطر. المسجّى فيه يستعدّ ليقول كلماته الأخيرة: »المسيح قام، يا أولاد«.

وإذا بهم يهتفون: »قام، يا أبونا، حقًّا قام«!

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share