المطران سابا إسبر
حينما كنت ولدًا، وفي أحد الأيّام بينما كنت أتمشّى في أحد شوارع مدينتي اللاذقيّة، لمحت راهبين في الطريق، ولفتني لباسهما، وكان رهبان الحرف وقتها، يلبسون جبّة، ويعتمرون طاقيّة رهبانيّة. حرّكا منّي المشاعر، وأردت أن أتحقّق من طبيعتهما، فتبعتهما حتّى وصلا إلى أوّل شارع سلكاه. سألت عنهما فعرفت أنّ أحدهما هو الأب إلياس (مرقص) من اللاذقيّة، وأنّ بيت أهله كائن في المنطقة التي قصداها.
أردت أن أستزيد في المعلومات، ولم أكن أعلم إذا ما كان الفضول هو الدافع، أو نعمة إلهيّة خاصّة دفعتني باتّجاهه. فعرفت أنّه كان تبوّأ مركزًا وظيفيًّا مرموقًا جدًّا وأنّه سليل عائلة أرستقراطيّة، وحاز وفرة من العلم، لكنّه تخلّى عن كلّ المجد الذي حصّل، ليبتاع الجوهرة الكثيرة الثمن.
بعدما شارك في تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الكرسيّ الأنطاكيّ، وأنشأ مركز اللاذقيّة، وخدم الكنيسة خدمة راعٍ حقيقيّ، رأى أنّ عطاءه للَّه ناقص ما لم يهبه ذاته بكلّيّتها. فيمّم شطر الدير يبتغي وجه اللَّه محبوبه فقط. ترك كلّ شيء، وتبع المسيح. وعى أنّ مباهج الدنيا كلّها باطلة. حقّق، في ذاته، كلمة الإنجيل، الذي عشقه، وعشق السيّد عبره.
التقيته في ما بعد، في أثناء صيف التحضير للثانويّة العامّة، لكنّ اللقاء هذه المرّة كان في ديره، في قرية دير الحرف. كنت أمضي خلوة روحيّة في دير سيّدة البلمند البطريركيّ، فاصطحبني رئيسه آنذاك، سيادة المطران يوحنّا (منصور)، لقضاء بعض الوقت في دير القدّيس جاورجيوس، دير الحرف. صدمني تواضعه أوّلاً، إذ كنت أتخيّل رئيس الدير شخصًا مهيبًا ذا مركز عالٍ، يتعاطى برسميّة وفوقيّة وبتكلّف… كان هذا لقائي الأوّل برئيس دير. كان قليل الكلام، يميل إلى الإصغاء أكثر منه إلى التحدّث، ويرمي بنكات لطيفة بين الحين والآخر. فارتحت إليه، وبحت له بمكنونات نفسي وقلبي، فكان اعترافي الأوّل عنده.
وتتالت اللقاءات بعد ذلك في كلّ زيارة له إلى اللاذقيّة. تعلّمت منه أهمّيّة الكتاب المقدّس، وبخاصّة الأناجيل الأربعة، وأدركت المسيحيّة ببساطة لم أكن على عهد بها من قبل. إذ قام توجيهه الروحيّ على ذكر آيات أو أمثلة من الإنجيل المقدّس بدون مقدّمات وتعقيدات. علّمني حبّ الإنجيل والتعاطي معه ببساطة. فدخلت عمق البساطة الإنجيليّة، وبدأت أفهم الكثير من تصرّفات الأب إلياس.
كان أمينًا للإنجيل بشكل مذهل، حتّى إنّك، إن عرفت الأب إلياس، لا يمكنك إلا أن تتأثّر بأمانته الإنجيليّة. سأله بعضٌ، خلال زيارتي الدير للمرّة الأولى، لماذا أعطيت ذلك الطالب معونة وأنت تعرف أنّه محتال؟ فأجاب بهدوء »حتّى لا نخالف الإنجيل، لأنّ السيّد يقول »من سألك، فأعطه««. فعاد السائل، وقال: ولكنّك تعرفه لا يستحقّ أبدًا؟ فابتسم الأب إلياس، وقال بهدوء: »طلبت من أمين الصندوق في الدير أن يعطيه قليلاً، لا بحسب طلبه، وهكذا لم أعلّمه الطمع، وفي الوقت ذاته لم أخالف الإنجيل«.
وحين اطّلعت على مقالته الصادرة في مجلّة النور، في العام 1962 أو 1963عدتُ لا أذكر، وعنوانها »الكتاب المقدّس وحياتنا الشخصيّة«، دخلت مرحلة جديدة في حياتي وفي علاقتي بالكتاب المقدّس. أعترف بفضله عليّ في تعلّقي بالكتاب الكريم.
عندما بدأت أنخرط أكثر في جوّ الكنيسة، أخذت استغرب كيف أنّ »أبونا« إلياس يستطيع أن يقيم في السلام الروحيّ الرهبانيّ، ويتعاطى، في الوقت ذاته، مشاكل الكنيسة وقضاياها الملحّة بكلّ جدّيّة. هجرانه العالم لم يهجّره من عروس المسيح. لم ينغمس في مشاكلها، لكنّه كان حاضرًا فيها كلّها. لا يكتفي بالصلاة فقط، وهو يعتبرها رسالته الأولى، بل يقول كلمة الحقّ بجرأة، ولكن لا على السطوح، بل أمام الشخص الذي يجب أن يسمع.
معه، تعرّفت إلى الروحانيّة الأرثوذكسيّة على حقيقتها. روحانيّة لا تعرف أيّ شكل من أشكال التزمّت أو التطرّف. ولا تقيم وزنًا للحقّ المجرّد بمعزل عن الشخص الذي يحمله أو يجب أن يحمله.
منه، تعلّمت أنّ الراهب يحمل معاناة أليمة لكنيسته، ويتعلّم من ربّه الصبور كيف يصبر على الآخرين، حتّى الذين يؤذون الكنيسة عن معرفة أو عن غير معرفة.
منه، تعلّمت أهمّيّة الصلاة من أجل الكنيسة وأبنائها. ولمست، بفضله، مرّات عديدة، فعل الصلاة في حلّ عقد مستعصية فيها.
أظنّ أنّه كان يتألّم من عدم تحقيق رؤيته لأمور كنسيّة عديدة ، لكنّه كان يخفي معاناته هذه بتواضعه وتسليم ذات كلّيّ للربّ. كان أبونا إلياس يعتبر نفسه مجرّد أداة في يدي الربّ، ليعمل بواسطته ما يشاء. ويبقى راضيًا سلاميًّا في كلّ الظروف.
أعترف بأنّي بذلت جهدًا، لأكتب هذه الكلمات القليلة عنه. ربّما لا أكون مستحقًّا لأنّ أكتب عن قداسته، وقد يكون هو ممتنعًا عن إعطائي بركة كهذه، لكنّي بالتأكيد أقف عاجزًا عن إكمال الكتابة.
كما شملتني وأبرشيّتي بصلاتك أيّها الأب القدّيس، هكذا أرجو، وأنت أمام العرش الإلهيّ، ألا تنسى ذكرنا هناك، عسانا نحصّل بصلاتك وأنت في السماء، ما لم نحصّله، بسبب تهاوننا، بإرشادتك وأنت على الأرض.