راهب أنطاكية من حرارة القلب إلى وهج الضياء

شفيق حيدر Sunday February 21, 2021 287

شفيق حيدر

رقد راهب أنطاكية بسلام. استودع الأرشمندريت إلياس (مرقص) روحه في يدي الحبيب، واطمأنّ إلى جواره. لطالما تمنّى هذه اللّقيا، ولطالما تاقت نفسه إلى هذا الوصال. »كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه، كذلك تشتاق نفسي إليك يا اللَّه. ظمئت نفسي إلى اللَّه إلى الإله الحيّ، متى آتي وأحضر أمام اللَّه؟« (مزمور 42: 2 و3)

قبيل انتقاله عنّا بأيّام معدودات، زرته متبرّكًا في المستشفى. استقبلني على كرسيّه نحيل الجسم، باسمًا كعادته، وضّاح المحيّا. ولـمّا لامست يديه شعرت ببرودة، فما كان منّي، وبعفويّة، إلاّ أن أشرت إلى هذه البرودة، وطلبت إليه أن يعود إلى الفراش، ليلتحف الأغطية كي تدفأ منه يدان باردتان. فبادرني مقاطعًا: إنّ قلبي حارّ وحارّ جدًّا، ملمِّحًا بخفر إلى المثل الفرنسي المأثور: mains     froides, cœur chaud.

وبعد أيّام، أنعم اللَّه عليه ونقله إلى ملكوت النور. فهجر هذه الفانية الزائلة، وهو المتوحّد الذي ترك مجدها وناسها ومناصبها، وانضمّ إلى جوق المسبّحين وألّف جماعة رهبانيّة تصلّي بلا انقطاع. ها هو اليوم يترك هذه الجماعة  المسبّحة على الدوام ويلتحق، وقد عمّده النور الإلهيّ، بالمصلّين الصامتين في حضرة العريس السماويّ. وحوّل هذا النور جثمانه الترابيّ، وهو مسجّى، بلّورًا وهّاجًا ينعكس منه النور ويرتسم عليه السلام.

الأب إلياس (مرقص) يختصر سبعين عامًا من تاريخ أنطاكية الحديث. تقبّل في مطلع شبابه إلهام الروح أنّ شباب الكنيسة مسؤولون عن نهضتها كما الشيوخ والإكليروس. نحن لا ننسى إملاءات الروح التي سالت من يراعه كلمات وسطورًا تبادلها مع جبرائيل سعادة في سورية، ولاقت هكذا أقوالاً أوحى بها الروح نفسه إلى جورج خضر وألبير لحّام في لبنان.

فرادة إلياس مرقص ورفاقه تكمن في وعيهم أنّ لا نهضة تعرفها الكنيسة ما لم تعرف خُلقًا رهبانيًّا يعمّ أبناءها جميعًا، وما لم تقم فيها جماعات رهبانيّة مكرّسة للصلاة والتأمّل والخدمة. فعمل على تأسيس رهبنة للرجال، فكان دير مار جرجس الحرف، وساعد، أيضًا، على تأسيس رهبنة دير مار يعقوب في بيروت أوّلاً ثمّ في ددّة. ونحن الذين ضمّتنا ورشة النهضة في ما بعد، نتذكّر جهاد الأب إلياس وعدد من رفاقه، من أجل قيام رهبنة للرجال، ولا ننسى الفوائد الجمّة التي جنيناها من ديرهم.

لا أكتب هذه السطور، لأشير إلى فضل الأب إلياس وديره على الكثيرين. إنّه أمر يكاد أن يكون مستحيلاً. كما إننّي لا أدّعي أنّ كلماتي تفيه حقّه.

رقد راهب أنطاكية. والراهب الأصيل لا يعي نفسه أفضل من سواه رغم ثقته بأنّه اختار الأفضل. لا يرى ذاته بارًّا كاملاً مع أنّه أعلن أنّه أراد أن يكون كاملاً، لـمّا ترك كلّ شيء، وتبع المسيح. هو لا يبرّىء نفسه من الضعف، هو مقتنع بأنّه هزيل، ولا يخطر بباله لحظة أنّه الأقوى.

إنّه راهب أنطاكية. والراهب قائم أساسًًا في التواضع. ما سمعته يومًا يرفع صوته غاضبًا، وما عرفته لحظة يدّعي العصمة، ويحتكر الروح، وينصّب نفسه معلّمًا يحكم على هذا ويدين ذاك. مكّنه اللَّه من أن يتخلّق بخلق المسيح الذي »مع أنّه في صورة اللَّه لم يعدّ مساواته للَّه غنيمة بل تجرّد من ذاته متّخذًا صورة العبد وصار على مثال البشر، فوضع نفسه …« (فيليبّي 2: 6 و7).

إنّه راهب أنطاكية ومرشد شبابها إلى الإله المرشد الأوحد. أراد الأب إلياس الناسَ على صورة ربّه أحرارًا. لم يعرف التسلّط على النفوس، ولم يمارس القمع على الأبناء. لم يخلط بين مشيئة اللَّه ورغبات نفسه. منحه اللَّه الحكمة وحسن التمييز. لم يشأ أن يقيِّد أبناءه بخطاياهم، ويزرع في روعهم الخوف الدائم من الشيطان، هذا الخوف الذي يكبّلهم. سعى إلى أن يقودهم إلى مراعي الفرح والغبطة والسؤدد. همّه أن يحبّ الخاطىء ربّه، ويعبده حرًّا، فيقيم في جواره حيث السعادة التي لا تفتر.

إنّه راهب أنطاكية، والراهب أساسًًا يقيم في الفرح. ما رأيته يومًا معبّسًا، ولا صادفته متجهّمًا، بل لبس الهدوء والسكون، وما غابت البسمة عن وجهه ولا الطرفة من أحاديثه. الفرح وليد الطمأنينة والراحة، وليد عشرة الإله، إنّه وليد الإيمان.

إنّه راهب أنطاكية والراهب مؤمن بأنّ اللَّه يتدبّر أمور مختاريه. فما شكا يومًا فقرًا أو عوزًا، ولا أقلقه لحظةً الغدُ وما يخبّئ. لم يتأفّف، بل ألقى على الربّ همّه. اختار الفقر الطوعيّ وجعل غناه في الكنز الذي ضمّنه قلبَه.

إنّه راهب أنطاكية. والراهب في إيمانه ورجائه ومحبّته. لم يفقد رجاءه لحظةً في أنّ اللَّه قادر على أن يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم. ولم ينظر إلى خاطئ إلاّ ناهضًا ونافضًا عنه الوهن والنتن والموات. فقوّى الركب المسترخية، وشدّ أزر المتهاونين بمحبّتهم. حملهم في دعـائـه الموصـول. إنّ المحبّة توحّد، وتغـلب، وتطـرد شيطان الفرقة والشقاق، وهي منتصرة وناصرة. عاشها، ودعا إليها.

نودّع راهب أنطاكية سائلين اللَّه أن يحفظ رئيس الدير الذي أسّّسه والرهبان فيه في النعمة والقداسة، ويثبتهم في الرهبانيّة الأصيلة التي قرأنا معالمها في مسرى حياة راهبنا الراقد. نودّعه على رجاء أن يبقى لأنطاكية راهب.

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share