قصّتي معه (من ابنة إلى أبيها)

د‫. ميساء بشارة Sunday February 21, 2021 442

د‫. ميساء بشارة

لكلّ من التقاه قصّة معه، ولكلّ من أبنائه مسيرة حياة برفقته، كيف أروي قصّتي؟ وبأيّة لغة تتحدّث ابنة عن أبيها وتشهد له؟ وشهادة الأبناء مجروحة، ولكن، أمانة للحقّ لا نستطيع إلاّ أن نشهد لعمل الروح المحيي فينا، عبر رجال اللَّه.

منذ أن غادرت دمشق مع وفد من أبنائه سارعوا ليواروا أباهم الثرى، وينالوا بركة للمرّة الأخيرة، بدأت الذاكرة تستعرض شريط حياة بأكملها، فمع كلّ وقفة، وعلى كلّ مفرق من الطريق، لمسة للأب إلياس وذكرى لا تمحى، فهنا أوصلني مع أحد الأخوة إلى دمشق، وهناك أخذني بجولة على حياة الأديرة، وها هنا تعرّفت إلى أشخاص جمعهم في ديره، فأصبحوا أخوة.

عندما وصلنا إلى كنيسة الدير، هذه الكنيسة الصغيرة التي شهدت طلبات وتضرّعات، ورأت دموعًا وأدعية، وتقبّلت سجدات وابتهالات، غمرني الإحساس ذاته الذي يختلجني كلّما دخلتها، الإحساس بحضور دافئ حلو ينزل إلى القلب، وبدفء الروح. نسمة من العلى تنعش الفؤاد، لكن، مع فارق وحيد هو أنّ الأب إلياس لا يقعد كعادته في زاويته اليسرى المستحية، كحياء تواضعه، ولا ينهض مع كلّ قادم للكنيسة، يعطي بركة ويقيم دعاء، بل الأب إلياس مسجّى وسط الكنيسة، مدثّرًا بالسواد والإنجيل الذي حمله في قلبه، يستقرّ على القلب، والبشرى التي تعهّدها وعاشها موضوعة على الجسد. ولكن… واعجبي…! عندما لمست اليد، فهي كما عهدناها بطراوة الجسد الحيّ مع شـيء من البـرودة، رغـم مضـيّ نحـو ثـلاثة أيّام على انتقاله.     

وتأبى الذاكرة إلاّ أن تستعيد شريط الذكريات، وتقف عند كلّ محطّة من محطّات حياتي، ولكنّها أناخت الرحـال، وحـطّت طـويلاً عـند اللقاء الأوّل مع الأب إلياس، الذي نصَّف سني حياتي، لقاء حاضر بالذهن رغم مرور أكثر من عشرين عامًا، لا أنساه لأنّه أدار البوصلة، وحوّل المسيرة بالاتّجاه المعاكس. فما قبل، ليس هو ما بعد.

روح تاهت في بحثها عن إلهها، وتغرّبت عنه في محاولتها إيجاده، شكّت في إيمان مؤطّر بحدود القانون، ورفضت إلهًا غير حيّ مصاغًا في قوالب جاهزة، وإجابات مزيّفة عن أسئلة مشكّكة، فتاهت بعيدًا عن الإيمان، وارتمت في غياهب الكفر والإلحاد، بحثت عنه في متاهات الفلسفات فلم تقنعها، وفتّشت في الكتب فلم تقابله، سألت عنه آباء كنيستها هنا وهناك، لكنّها اصطدمت بمن يفرض القيود ويجبر على الطاعة والقبول بأنّ هذا هو الإله. وبعيدًا عشتُ موتًا على الأرض، واختبرتُ هاوية الجحيم، وهبطتُ إلى أعماق لجّة اليأس.

ثمّ… التقيتُ به، وكان اللقاء مصادفة إلهيّة، في وقت قرّرت فيه ترك كلّ المحاولات للبحث عن إلهٍ لم أجده.

دموعه انسكبت مدرارًا، وحنانه انهال مهطالاً، عيون بالكاد بدت من وراء ستار الدموع، أوقفني طول بكائها بين حيـرة تسـأل، واستـغراب يراجـع ما قـيل… مـاذا حدث؟ هـل آذيتُ أحدًا؟ أو ارتـكبتُ ما لا يغتفر؟ لا… ليس هذا ولا ذاك… إنّها دموع تعاطفه معي وتبنّيه ألمي، ولكن… هل يتعاطف معك من لا يحبّك؟ وهل يحنّ عليك من لا يعـرفك؟… دمـوعه وصـلت شيئًا فشـيئًا إلى الأعماق الجافّة فروتها، ولامست جليدًا فأذابته، شقّت حجب الظلمة، وهتكت أستار الإلحاد الثقيلة، وغلف اليأس المتحجّرة، وصهرت بدفئها جليد الكفر وجمود عدم الإحساس.

وخلف الدموع، أضاء نور لطيف، وهبّ نسيم عليل، لوجه إلهٍ يفرح، وروح يبتسم، إله عهدته يعاقب ويدين، يحاكم ويلوم .

اقتنصتَني، أبتِ، من ظلمة الشكّ إلى نور الإيمان، ومن هاوية اليأس إلى حرّيّة الرجاء، ومن أسفل دركات الموت إلى توثّب الحياة، نقلتني من يأس يهوذا المميت بعد التسليم، إلى رجاء بطرس بعد الإنكار وتوبته، علّمتني بمحبّتك أن لا يأس مع إله قائم من بين الأموات ظافر على كلّ القوّات، ولا موت في أحضانه، بل حياة لا تفنى، وما أزال أذكر كلماتك (افرحي… افرحي، ضعي رجاءك عليه، ولا تيأسي) (افرحي… افرحي، فاللَّه يريدنا فرحين)، وأنّ الجحيم لا يقوى على أبنائه لأنّه فداهم، تلك… (عطيّة الدموع) التي أُعطـيت للأب إليـاس، وأضـاءت نفوسًًا كثيرة.

كان اللقاء… وكانت بداءة القصّة… أخذت، يا أبتِ، بيدي في رحلة استمرّت ما ينيف على عشرين عامًا، تعهّدتَني، وغذّيتني من لبن الطفولة إلى طعام الشباب، قدتني في مسيرة التعرّف إلى إله حنون عطوف، يسامح ويغفر، حرّ لا يحدّه طقس ولا قانون، بل هو ربّ الطقوس والقوانين، ولا يحوط به تفسير أو شرح، بل هو مصدر الإلـهام الذي يفـسّر ويـشرح. وتـلك كـانت جـوهـر حـيرتي وشكّي. علّمتني، يا أبت، كيف أطمئنّ إلى أحضانه كأب، وكيف أستسلم لمشيئته بثقة، وكيف أتوكّل عليه بانتظار.

لكنّك شيئًا فشيئًا، تراجعت لتتيح لعمل الروح أن يثمر، وينضج الابن في حرّيّة أبناء اللَّه، ويعبّر عن فرادته، تلقي بذار الكلمة، بجمل قصيرة موجزة، و… تصمت لتدع الربّ ينمّيها، عن عمد تغيّب وجهك عن الصورة، ليطغى حضور من تقود إليه، كما المعمدان ( ينبغي له أن يزيد ولي أن أنقص)، تنسحب من دون أن تترك، تراقب عن كثب لتعين وتعضد، وتتدخّل عند الحاجة .

أبتِ، حملتنا دائمًا في صلاتك وقلبك، وتحضرني دومًا كلماتك (أنت دائمًا معي…)، (أنت في صلاتي…). وكما يثق الابن بحضوره في ذهن أبيه على الدوام يلبّيه عند الحاجة، وثقت بحضورك الدائم معي في كلّ اللحظات، فكم من الأوقات، كنتُ بأمسّ الحاجة إلى التعزية، وفجأة من دون سابق إنذار، أراك في دمشق أو تتّصل أو تبعث برسالة، وتسأل وكأنّك… تعرف. وهذا حالك مع  جميع أبنائك.

كيف جمعتَ في داخلك رعاية الأب مع حنان الأمّ، وداعة الطفل مع حزم الناضج، رأفة الأنوثة مع شجاعة الرجولة، وعلى حدّ تعبير النفسانيّين، قد صالح في أعماقه الأنوثة وأنضج الذكورة،  فلم تأبَ رجولته البكاء ولم تأنف نفسه العطف، ولم يتعالَ حزمه على الحنان والرأفة.

جاهدتَ في عيش التواضع، حتّى غدا التواضع لا حالة معاشة، بل جزءًا من شخصيّتك وتعريفًا بك، يحسّ به كلّ من يصادفك، ويتنسّم عليله من يحضرك. كان محور حياتك وجوهر وصيّتك. فكلّما سألنا ومهما تحدّثنا، تسأل (هل تدينون) (هل ذهنكم صافٍ تجاه إدانة الآخر)، فكلّ الخطايا تكمن وراء الإدانة التي هي رأس الكبرياء. (تواضعوا، ولا تدينوا) كنتَ تكرّرها دائمًا في كلّ جلسة وعند كلّ حديث .

تطلب منّا (صلّوا لي) وعندما نجيبك (أنحن من سيصلّي لك؟) تجيب (الجميع بحاجة إلى الصلاة، لأنّ الخطيئة رابضة على الباب).

أينما حللت، تخلق حولك مجالاً من محبّة، يحسّ بها من يصادفك، وتلامس من يلتقيك. وحيثما استقرّيت، يتشكّل طيف من وداعة تجذب إليها كلّ من حولك، سواء مؤمنين أو غير مؤمنين كما يجذب النور الفراشة، هذا بشهادة الأهل والجيران ممّن التقوك. ويحضرني منظره وهو يصفّق بفرح الأطفال ووداعتهم، عندما يسمع خبرًا مفرحًا أو جهادًا ملحوظًا (براڤو) فرح يشعّ في عينيه حتّى لتخاله قلبًا انسكب في عيون.

عبق سلام ينشره أينما حلّ وحيثما تحرّك، وتتنسّم رائحته فوّاحةً قويّة عندما يصلّي، أو يضع يده على المعترف، مقدّمًا إيّاه لربّه. »أمّا ثمر الروح فمحبّة وفرح وسلام« (غلاطية 5 :22).

من كلّ حدب وصوب أتوا يودّعوك على هذه الأرض، ويسألوك أن يبقوا في ذهنك هناك، كما كانوا هنا، وترفع أوجاعهم وأفراحهم لإلهك وإلههم، وتستعطفه من أجلهم، كما كنت هنا، أن تتشفّع فيهم عند ربّك ولسان حال الجميع (يا قدّيس اللَّه تشفع فينا). أتوا من دون دعوة، لم تجمعهم سوى محبّتك التي بذرتها ونثرتها هنا وهناك، فبادلوك إيّاها، بكوا من كلّ قلوبهم، نساء ورجالاً، شبابًا وشيوخًا، تلك هي (المحبّة التي لا تسقط أبدًا) حسب بولس الرسول، وعلى حدّ وصف أحد الحاضرين: إنّها جنازة محبّة، وليست جنازة واجب.

إلهنا… سامحنا على بكائنا، واغفر لنا حزننا، فهو ليس عن عدم إيمان أو قلّة ثقة بالقيامة، لكنّنا بكينا، قبسًا من الألوهة تجلّى فيه، أضاء دنيانا لبرهة ثمّ خبا، لمحة من حياة الملكوت، عشناها لحيظات ثمّ انتقلت، ذقنا حلاوة من النور، تنسّمنا نفحات من نسائم الأبديّة، لكنّها غادرت، نفتقد ما عشنا ونتشوّق ما عاينّا… كان الأب إلياس رجل اللَّه بامتياز.

لكنّ ثقتنا بعمل الروح، أنّ البذار مطروح، هنا وهناك، في الأديار وفي العالم، إكليريكيّين وعلمانيّين، متبتّلين ومتزوّجين، وسيثمر رجالاً للَّه وأبناء للملكوت، رجالاً ونساء لأنّ ربّ الأب إلياس وربّنا، يطّلع من السماء، وينتظر…. تجلّيات للألوهة على هذه الأرض.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share