جان توما
من مسالك واحات أشجار الصنوبر والتفّاح، سلك الراهب إلياس (مرقص) مسالك الضياء قبل أن يتناهى الليل، ويقترب النهار. بمثل هذه الدروب الصنوبريّة، حفر فينا مضارب الإيمان التي عشنا فيها حيث تلقّينا صغارًا الحرف اللحميّ، على يديه، في دير مار جرجس الحرف.
هناك، وسط أشجار الصنوبر قبل اندلاع الحرب، كانت حربنا قائمةً بين اليقين والشكّ، بين الانغماس في الحياة وأن نكون خارجها، أن نكون من هذا العالم وليس من هذا العالم. كانت الإشكاليّة صعبة الفهم على عقول أولاد كانوا يلهون في دروب الصنوبر، تحت الدير العتيق، فيما حلُّها كان بسيطًا ببساطة ذاك الراهب العتيق السائح على دروب الربّ، في دير تؤمّه قلوب مؤمنين واجفة باحثة عن استقرار نبض وهدأة بال.
هناك، تعلّمنا كيف يصير المرء إيقونة حيّة، وكيف يتحوّل هذا الراهب البسيط إلى عظيم في ملكوت السماوات، التي ينزّلها بـهدوء وسكينة في قلبك، فتصير، إذ ذاك، متلمّسًا ما معنى أن تكون الأجساد هياكل للروح القدس.
حملنا الشوق إلى تلك البقعة الهادئة من جبل لبنان، في دير الحرف، ليتحرّر المرء من ربقة الخطيئة، ليعاين النور الذي يقودك إليه راهب يسألك عن طرابلس وعن القدّيسين فيها، ويعدّدهم بالأسماء. لعلَّه كان يعلّمنا أنّ عفويّة مسيحيّي طرابلس والمدن الساحليّة وحيويّتهم، كغيرها من الرعايا الحيّة، هي ملح الأرض، وأنّ التوّابين فيها كثر، لذا فإنّ قداستها، وإن نزلت من فوق من لدن أبي الأنوار، يصنعها البشر بسقطاتـهم وقياماتهم، بعدما تعثر أرجلهم بحجارة الأرض الصمّاء، لكنّهم يقومون بقلوبـهم اليقظة الناهدة إلى وجه ربّها توبة نصوحًا وقيامة نورانيّة.
أيّها الراهب القدّيس السالك في الظلمة، قد وجدت نورًا عظيمًا، وبك أبصرنا نورًا، لأنّك علّمتنا أنّ اللَّه معنا في كلّ حين. لأنّ النور حلّ فيك، وصرت مسكنًا لبهاء نشتاق إلى معاينته، بعدما يشدّد الربّ، في عثار الطريق، ضعف قوانا، ويسدّد خطانا، ويقودنا بالروح إلى معارج الضياء الذي تفجّر بين يديك، فيما عدت طفلاً في حضرته، وكبيرًا عندنا، لأنّك أعددتنا، باعترافاتنا، عندك، وبحضورك فينا، لنسلك دربًا قادوميّة تشي بأنّ الكون كلّه، ببشره وحجره، ملك لذاك الذي كان الكلمة منذ البدء، وحلّ بيننا، كما عندك، لتصير كلمة محييّة لكثيرين.
يا أيّها الراهب القدّيس، وقد عرّجت قبيل رحيلك، على أكواز الصنوبر وشهيّات التفاح، قبل أن تلج تراب الأرض، قلّ لنا: ما يجمع بين اللاذقيّة، مسقط رأسك، وطرطوسَ وحلب وطرابلس وعكّار وبيروت والجبل، وأقاصي الكرسيّ الانطاكيّ؟ غير ذاك الذي جعلك رباطًا لمؤمنين، يأتونك كحبّات القمح من سهول الرعايا، فتحيلهم عن وجهك إلى وجه ربّك رغيف خبز، جامعًا، بنار العنصرة المقدّسة، المشتّتين إلى واحد. كما كنت بوصلة للجياع إلى واحات الكلمة المتدفّقة من فمك، بعدما أخذت الكتاب المقدّس في جوفك، وانفجر فيك حياة طافرة كالأيائل إلى حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهّد، بل حياة لا تفنى.