الأرشمندريت إلياس مرقص
نعني بالأدب النسكيّ ما وصلنا عن آباء البرّيّة بخاصّة من أقوال وكتابات. وقد تكون كلمة «أدب» غير ملائمة تمامًا، لأنّ ما وصلنا عنهم أو منهم لم يكن «أدبًا» بل تعبيرًا عن حياة.
وقد يتساءل المرء هل أنّ هذا «الأدب» النسكيّ الآبائيّ يسري علينا نحن المسيحيّين العاديّين حتّى نبحث عن أهمّيّته في الحياة الروحيّة؟ قد يكون الجواب: ألا يسري علينا الإنجيل الشريف؟ فآباء البرّيّة هم إنجيل مُعاش[1].
فحين نقصدهم ونذهب إليهم، ويجدر بنا أن نذهب إليهم دائمًا، فليس طلبًا للمعرفة العقلانيّة بل في سبيل الحياة.
إنّنا أوّلًا نتوخّى لديهم تعزية، هي تعزية حضور الروح. فإنّ آباء البرّيّة لا يزالون أمامنا كحضور يسهم في عمل المعزّي. إنّهم داخل التاريخ، مكان للتعزية، مكان للروح. إذ منذ أن حضر الروح القدس إلى العالم بات كلّ شيء قائمًا فيه.
أمور الروح عادةً مجال لنشاط العقل. ولكنّه قبل كلّ شيء حضور تعزية. أي إنّه قوّة قادرة على أن تحمينا، قادرة على أن تقتبلنا وتأوينا كما في منزل. ليس لنا هنا بيت، ليس لنا ملجأ. فنلجأ إلى الآباء الغرباء ونحسّ لديهم بتعزية الروح. ذلك بأنّ كلامهم وحضورهم لا كذب فيه، والتراث الذي تركوه لنا يؤلّف حقيقة قد ثبّتها جهادهم الروحيّ ودموعهم ودمهم (“الذين يشهدون في الأرض ثلاثة: الروح والماء والدم” (يو ٥ : ٨). إنّها قوّة حضور حقيقيّ كلّيًّا.
ومن البداهة أنّهم قد وضعوا إلى الأبد “علامة” لا تمحى ولا تُنزع لعمل الله الفاعل في العالم. فلنذكر هنا الرؤيا التي رآها أحد الآباء بعد رقاد القدّيس أنطونيوس وسمع القول التالي: “حيث الله فهناك أنطونيوس”. ونستطيع أن نقلب هذا الكلام ونقول: “حيث أنطونيوس فهناك الله”. ذلك بأنّ أنطونيوس غارق في الله. فحضوره هو ولا شكّ حضور حقيقة، علامة لواقع وحقيقة.
ثمّ عندما نذهب إلى الآباء ونكرّمهم بإيماننا بهم فنحن بذلك نقرّ ونعترف بأنّنا من ذرّيّتهم، رغم عدم استحقاقنا إنّنا نعرف أنّهم يبحثون عن آثار الله في الصمت والخفاء، ونعرف أنّه يجب ألّا يندثروا. ولكنّنا أيضًا بتكريمنا إيّاهم نجدّد التزامنا نحوهم، التزام إيمان وأمانة ليس فقط تجديدًا لذكرى خارجيّة أو استعانة بهم لبحث ما، أو سعيًا لنشاط ما من أجل المعرفة، بل تجديد لذلك الرباط المفروض والذي لا بدّ منه، أعني رباطنا بهم رباط أمانة، رباطًا قويًّا ودائمًا، يدلّ على من هم ذرّيّة واحدة.
وأخيرًا نحن نذهب إليهم لنسألهم أن نعود دائمًا إلى نوع معيّن من الحياة: كلّ ما ينقل الحياة ينقلها عبر الكلام. والكلمات اليوم كثيرًا ما تضعف وتهترئ. إنّها ما زالت تستعمل ربّما، أو إنّنا ما نزال- في هذه الأزمنة القلقة، البرّاقة خارجيًّا ولكن الجزعة داخليًّا- نستند إلى الكلمات ونتستّر وراءها. هذا لأنّه ليس لنا مدخل حقّ للحياة الكامنة وراء الكلمات. فتكون تاليًا كلمات فارغة، باطلة، يحكونها أكثر فأكثر في جمل جميلة، على سبيل الاطمئنان.. في ذلك الصمت الرهيب الذي يلازم كثرة الكلام.. ولذا نجد فينا تساؤلًا يهزّنا: تُرى هل أنا أحكي وأقول كلامًا فارغًا؟
أمّا كلام الآباء فهو كلام الحياة. إنّنا عبر كلامهم نحسّ بالحياة التي أوجدت الكلام. إنّها كلمات محبّة ورحمة وخلاص وما إلى ذلك، كلمات حياة حيّة.
وهكذا فنحن نعود إليهم لكيما نعيد اتّصالنا على الدوام بحياة قد تفرغ فينا بدون هذا الاتّصال.
هذا ما نستطيع قوله حين نكون، بنعمة الله، في حال من وفرة الحكمة والخبرة القويّة الفاعلة فينا. ولكن هذا قد يؤول إلى تجربة تدفعنا إلى التشبّه بهم وتقليدهم. إذ نشعر بصغرنا تجاههم فنشتهي أن نماثلهم. إنّها تجربة لأنّهم ليسوا رسمًا لماركة معيّنة معلّبين في علب ومعدّين للاستهلاك.. فهم لا يقلَّدون. ونحن بعيدون عنهم لعلوّهم وعظمتهم إنّهم لعجيبون.
لكنّنا تعلّمنا أن ندرك أنّ الآباء كانوا أيضًا “يوميّين”، يعيشون يومًا فيومًا بالاتّضاع، في صغر حياة يوميّة ككلّ إنسان أرضيّ. ولكنّهم يتحرّكون. كلُّ شيء فيهم حياة قويّة، اتّخذوها وتبنّوها في سبيل هدف واحد هو الله. وهم يعمّرون طويلًا. فالحياة فيهم ظاهرة وحاضرة.
أمّا تراثهم لنا فهو أن ندرس الحياة “بروحهم”: “بروح إيليّا” يقول الكتاب، أي بروح حياته هو لا في تشبّه أو تقليد خارجيّ، بل كأنّها حياتنا التي ليس لنا غيرها ولا لها بديل. فحياتنا أضحت أن نكتشف حياتهم ونبتدعها بروح البنوّة والأبناء. إنّ فيها قوّة وتعزية وحقيقة نقتبلها في محاولتنا درسها وفهمها.
نحن في درسنا أقوال الآباء نتمرّن تمرينًا روحيًّا مليئًا ثمرًا ونورًا ومنفعة. إنّنا ندخل به إلى ما وراء المظاهر (حتّى إن لم يكن هذا مقصودًا في الأصل). فهذه الأقوال معجونة بالروح إلى درجة تتيح معها انفتاحًا من المعاني لا حدود له.. المعاني التي ترافق مسيرة حياتنا. فنجد أنفسنا في صعودنا الروحيّ، في مستويات مختلفة عن المستويات السابقة. إذ ننتقل من المستويات العاديّة إلى مستويات أخرى ترفعنا إلى سرّ الحياة مع الله وجوهرها.
أمّا الكلام بعد هذا عن فضائل أو مواقف أساسيّة لديهم يمكن أن نفيد منها ونتبنّاها في حياتنا الروحيّة- كالهدوء والجهاد المستميت وتبنّي العالم كلّه في التوبة والصلاة- فلا يعود واردًا.. لأنّ هذه إنما هي نتيجة موقف مبدئيّ بل لصلة حياتيّة بهم متى توفّرت نبعت تلك منها تلقائيًّا.. فضلًا عن أنّها تتنوّع بين أبٍ وأبٍ ويجدر بحثها لدى بحث كلّ أب على حدة[2].
المرجع : مجلّة النور، العدد الأوّل، ١٩٩٨.
[1] الفرق بيننا وبينهم ليس في طبيعة الجهاد ونوعه بل هي درجة كثافته.
[2] هذه المقالة مستوحاة معظمها من حديث للأب أندريه سكريما.