الأرشمندريت إلياس مرقص
«إنّنا معيّدون لإنجاز الوعد…» هكذا نرتّل يوم العنصرة. فالربّ يسوع قد أنجز وعده، «أفاض الروح».
ثمر الفصح الروح القدس. والكنيسة، التي تأسّست يوم العنصرة، هي كنيسة الروح. حتّى إنّه يمكن القول بأنّ الربّ يسوع صار «روحًا»، إذا جاز التعبير (انظر ٢ كو ٣ : ١٨ حيث يتكلّم بولس الرسول على «الربّ الروح»). وقد أصبحنا لا نصل إليه إلّا في الروح وبالروح (أنظر ١ كو ١٢ : ٣).
نستهلّ صلواتنا بالدعاء: «هلّم واسكن فينا». نقول «إجعلني هيكلًا لروحك الموقّر». نرتّل: «بالروح القدس كلّ أحد إلهيّ». وفي قراءات الغروب نردّد قول الربّ: «أسكب روحي على كلّ بشر، وأبثّ روحي فيكم». نسمّي الروح القدس «عشقًا» … نقول: «لِنَطِر الآن بالروح»… وغيرها من أقوال كتاب المعزّي…
فكم مضت من السنين، وكم تمضي، ونحن لا نحسّ بذلك!
نيقوديموس آمن بأنّ يسوع قد أتى من الله «معلّمًا». فأجابه يسوع فورًا: بل «إن كان أحد لا يولد من فوق…» (يو ٣ : ٣)، إن كان لا ينتقل إلى صعيد آخر… الربّ يسوع أتى ليعطينا «حياة أوفر»، حياة الروح. «بالروح القدس تفيض سواقي النعمة ومجاريها وتروّي البرايا بأسرها بالحياة المحيية».
عند الخلق كان الروح «يرفّ على المياه». كانت الخليقة تقتبل الوجود… ونحن، لكي نقتبل الحياة الجديدة، ينبغي أن نكون في نوع من انفتاح كيانيّ وتخلٍّ عن الذات، في حالة من «التقبّليّة»، على غرار تقبّليّة الخليقة الخارجة من يدي الخالق. على هذه الصورة نكون مهيَّئين لحلول الروح القدس فينا يوم العنصرة فعلًا، بقوّة الأسرار الكنسيّة وبهائها.
الروح القدس لا يُعرف إلّا من الداخل. «وأمّا انتم فتعرفونه لأنّه يكون فيكم» (يو ١٤ : ١٧). لا نستطيع أن نعرف الروح القدس إلّا بجذور كياننا، «بالقلب الأعمق من كلّ شيء» (إرميا ١٧ : ٩). لا يمكن اقتبال الروح من الخارج. فعلينا تاليًا أن نصير «داخلين»(nous intérioriser) ، أن نلج إلى داخلنا، أن ننزل إلى عمق نفسنا، هناك في «القلب الخفيّ» (١ بط ٣ : ٤) حيث يتّحد الروح بروحنا ليجعلنا أنفسنا.
وبّخ إستفانوس اليهود على أنّهم «دائمًا يقاومون الروح القدس» (انظر أع ٧ : ٥٢)، لأنّهم لا يخرجون من ذواتهم: «إله المجد ظهر لأبينا إبراهيم وقال له: اخرج من أرضك ومن عشيرتك» (انظر أع ٧ : ٢)… «لم يشأ آباؤنا أن يكونوا مطيعين لموسى بل رجعوا بقلوبهم إلى مصر» (أع ٧ : ٣٩)… «سليمان بنى لإله يعقوب بيتًا، ولكنّ العليّ لا يسكن في بيوت صنعتها الأيادي… أيٌّ هو مكان راحتي يقول الربّ» (انظر أع ٧: ٢٨ و٤٩).
فحياة الروح تقتضي أيضًا الخروج الدائم من الذات «أنا فيكم وأنتم فيّ»… إنّ أولئك الصيادين الصغار يتمرّدون ويتّسعون بعد حلول الروح من دون انقطاع… فعلينا ألّا «نقيم» (داخليًّا) في إطار ما، بل أن نعيش في تجدّدٍ وتغيّرٍ دائمين لكلّ حياتنا. فإنّه لا يمكننا أن نحيا بدون هذا «الموت – القيامة» (الذي يتغلّب على مخاوفنا وعلى حيائنا. خروج أيضًا نحو الآخر. الروح القدس في العنصرة يشمل البشريّة كلّها: «دعا الكلّ إلى اتّحاد واحد». وهذه فاتحة كرازة الكنيسة. فَلِسرّ الروح القدس وجه أساس هو الوحدة. لا الوحدة على صعيد الطبيعة، بل وَحدة المحبّة، الوَحدة في التعدّديّة. همّه الكبير بل «هواه» وحدة أبناء الله: «الروح يئنّ فينا صارخًا يا أبا الآب».
ولذا فإنّ «سائح الروح» يخرج نحو الآخر، يكون في حالة خروج دائم نحو الآخر، لا لأنّه مثلي، وإلّا ففرحي يضيق فيّ ويتقلّص، وليس هذا عمل المسيح، بل لأنّه آخر، لأنّه يكمّلني وأكمّله… هذه الوَحدة في التعدّديّة هي عمل الروح.
في حالات الضيق الروح القدس هو حقيقة «المعزّي». ولتعزيته طابع خاصّ: إنّها فرح نشعر به ونحن داخل المحنة. أتعزّى مع بقاء ألمٍ، مع بقاء نقصٍ أُشفى منه. والروح يعزّينا إذ يجعلنا نحسّ بأنّنا في حضرة الربّ يسوع المحبّ البشر. وهذه التعزية ليست شعورًا محدودًا بل كلّيًّا، حالة تسري في كلّ كياننا. حنوّ عميق، باب إلى الحبّ غير المتناهي. إنّه المسيح يسكن في كلّ واحد منّا (انظر ا بط ١: ١٠ – ١٢).
الصلاة الدائمة تشبَّه بالتنفّس… إذ إنّنا بها نستمدّ من الله الحياة ونحيا بروحه القدّوس. الكيان يقتبل الروح والروح يسكن الكيان. إنّها مناولة روحيّة.
الإنسان الروحانيّ يعي حضور الله، ولكنّه يصمت. هذا الوعي الروحيّ لا يُقتنى ولا يُحتفظ به إلّا في الصمت. وحالما يعلن يُنتزع منّا.
وهو أيضًا لا ينفصل عن الاتّضاع: الصمت الداخليّ في الصليب الذي يهبه الله لكلّ منّا محنٌ تثبّته فينا وتجعله فعلًا صليبنا. فعلينا أن نقبل المحنة بالاتّضاع، وإلّا فصليبنا ينقلب علينا. هذا وجه من أوجه سرّ القدّيسين: بولس الرسول الذي اختُطف إلى السماء الثالثة، يقبل أن يُجلد ويُضرب ويُترك كمائت… ذلك بأنّ عيشنا في حضرة الله لا ينفصل عن الاتّضاع.
لا نقدر (مسيحيًّا) أن نتصوّر ولا أن نحيا حياة غير فصحيّة. فإنّه «قد أجازنا من الموت إلى الحياة ومن الأرض إلى السماء». لا يمكننا أن نحتفظ بالروح القدس إلّا بموقف فصحٍ وعبور. لا نستطيع أن نحوي عطيّة الله إلّا بإعطاء ذواتنا عطاءً كلّيًّا.
يبقى أنّ الله محبّة، وأنّنا بالروح القدس نحيا هذه المحبّة. نحياها ونحسّ كيانيًّا أنّ محبة الله لا حدّ لها ولا توصف، وأنّها تغمرنا بصورة عجيبة وأنّ الثالوث القدّوس يحلّ فعلًا فينا: «إنّي أحواك ساكنًا وثابتًا فيّ مع أبيك وروحك القدّوس» (صلاة المطاليبسي)… وذلك، إلى حدّ ما، على غرار العذراء مريم: «الروح القدس يحلّ عليك…» (لو ١ : ٣٥) فسكن الله فيها…
وتصير حياة الإنسان عيدًا واحتفالًا ليتورجيًّا مستمرًّا، يتداخل فيه روح الله وروح الإنسان. ويضحي الإنسان، بصورة فريدة، يحبّ العالم برمّته، مصلّيًا بحرارة ودموع من أجل جميع الناس وكلّ العالم… لا بحبّه هو بل بحبّ الله للعالم، ذلك الحبّ العجيب الذي يحاول الله كشفه للإنسان منذ خلق آدم وخلال مراحل تدبيره الخلاصيّ على توالي الزمن، إلى يوم العنصرة وإلى الآن، حيث يحاول على الدوام أن يجدّد فينا «روحًا مستقيمًا»، عبر طاعتنا وصاياه وتسليمنا لمشيئته، عبر «الصليب – القيامة»، والتوبة والصمت والاتّضاع إلى أن يحقّق فينا محبّته ورحمته العظمى: «أنا فيكم وأنتم فيّ».
المرجع : مجلّة النور، العدد الثالث، ١٩٩٦.