الأرشمندريت إلياس مرقص
يجدر بنا أن نحاول دائمًا وقدر الإمكان استخلاص مبادئ، أو قلّ قواعد للحياة الروحيّة من نصوص الكتاب المقدّس. وإلّا تكون مُطالعتنا غير ذات جدوى في علاقتنا بالله.
ويبدو لي أنّ نصّ إنجيل (لوقا ١٠: ١٦- ٢١)، كغيره من نصوص الكتاب المقدّس، يتضمّن مبدأً أساسيًّا جدًّا في هذا الصدد:
لقد أرسل الربّ يسوع الرُسل السبعين أمام وجهه ليكرزوا في كلّ مدينة وموقع، حيث كان هو مزمعًا أن يأتي، ليكرزوا بقرب ملكوت الله ويشفوا المرضى (لوقا ١٠: ١- ١١). فرجعوا بفرح قائلين: «يا ربّ إنّ الشياطين أيضًا تخضع لنا باسمك». وبعد أن أجابهم: «رأيت الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق وها أنا أعطيكم سلطانًا أن تدوسوا الحيّات والعقارب وقوّة العدو كلّها ولا يضرّكم شيء…»، قال: «ولكن لا تفرحوا بهذا أنّ الأرواح تخضع لكم بل بالحريّ افرحوا بأنّ أسماءكم كُتبت في السماوات».
ويعني ذلك أنّه يجب ألّا نفرح بما نفعل ونخدم ونعطي (رغم وجوب قيامنا به بجدّ وإخلاص) بل بما ننال ويُنعم به علينا مجّانّا من السماوات[1]. ولهذا وجه كيانيّ عميق لأنّنا مخلوقون ولا حياة لنا في ذاتنا كيانيًّا. وتاليًا لا تكون صلاتنا سليمة (ولا موقفنا الروحيّ) ما لم ندرك تمامًا أنّه ليس لنا الشيء من ذاتنا بل كلّ شيء مُعطى لنا.
وتردنا هنا قصّة الناسك الذي جاهد فتقشّف وصام وسجد وبكى… وعندما مات وقرع باب الفردوس سُئل من يقرع، فأجاب: «أنا»، فقيل له ليس لك مكان هنا. فعاد إلى جهاده النسكيّ وازداد فيه أتعابًا. ثم لمّا عاد وقرع باب الفردوس فسئل من أنت، فقال: «أنا» فسمع الجواب عينه أنْ لا مكان له. فعاد أيضًا إلى أتعابه النسكيّة… وأخيرًا وبعد مدّة طويلة، وقدّ تسنّى له أن يفهم، عاد وقرع فسأله الله من يقرع، قال: «أنت» فانفتح له الباب فورًا على مصراعيه.
ويُذكّرنا هذا بقول القدّيس مكسيموس المُعترف إنّ علّة كلّ الأهواء قاطبة وسببها ليس إلّا الفيلاتيّة (philatia) أي محبّة الذات.
وأليس من محبّة الذات هذه تنتج كلّ الخلافات على كلّ الصعد (على الصعيد الشخصيّ والعائليّ والاجتماعيّ والدوليّ) وأليس كلّ قلقنا وعدم سلامنا الداخليّ ينبع بالنتيجة من التمسّك بأنانا.
وألم يقل المسيح: «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه كلّ يوم ويتبعني…».
وألم يُفرغ المسيح نفسه ليُخلّصنا من ذواتنا، وأما قال بولس: «فلست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ».
إنّ سيرة المسيح كلّها وأقوال الكتاب المقدّس كلّه تدعونا إلى التخلّي عن ذاتنا. «مَن أهلك نفسه… يُخلّصها».
إنّه سرّ الحياة… فليُعطنا الله أنّ نفقه ذلك… فنحيا.
المرجع : مجلّة النور، العدد التاسع، ٢٠٠٣.
[1] يلاحظ أنّ الربّ يسوع عندما أرسل الرسل السبعين لم يعطهم سلطان طرد الشياطين، بل سلطان شفاء المرضى فقط، وهذا ربّما لتأكيد نعمة مجّانيّة.