الارشمندريت الياس مرقص:
لم تعرف الارثوذكسية الانطاكية المشرقية في تاريخها، امجاداً من هذا العالم، وتالياً لم تكن يوماً سليلة لعظمة القياصرة في روما، ولم تصبح وريثة لأمجاد الشرق الامبراطوري في القسطنطينية.
لذلك ان ارادت الكنيسة الانطاكية ان تفتخر، فهي حتماً لا تفتخر إلا بفقر ابنائها إلى الله، ، وبقديسيها الذين اسلموا حياتهم للرب وكنيسته، بدءً من دعوتهم مسيحيين اولاً فكانوا شهوداً ومنارات على صعيد العالم بأسره، فمن انطاكية خرج مثلاً: بولس الرسول مبشراً المسكونة و اغناطيوس الانطاكي عاشقاً للشهادة و رومانوس المرنم خادماً للفن الكنسي.وأقمار الكنيسة يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير، وأيقونات النسك اسحق وافرام السريانيان وغيرهما، وفي انطاكية تحولت العواميد إلى منابر و منارات سماوية مع سمعان و دانيال العاموديان وسواهما، وعلى يد ميخائيل السوري تعمّد الامير فلاديمير ليعتمد معه كل شعب روسيا.
وعندما كان اباطرة بيزنطية يضطهدون الكنيسة ويشنون حرب الايقونات ، انبرى يوحنا الدمشقي، مدافعاً صلباً عن العقيدة و الإيمان ، رغم وجوده في ظل الحكم الاسلامي،
اما الشهداء القديسون فنعجز عن تعدادهم ، و حتماً ليس آخرهم القديس يوسف الدمشقي.
لا مجال هنا على الاطلاق لتعداد القديسين الانطاكيين، و عدد المجهولين منهم ربما تساوي او تجاوز عدد المعروفين، ولكن سواء الذين عرفوا او الذين لم يعرفوا، فإنهم كانوا كواكب منيرة طال تأثيرهم الكنيسة في كل المسكونة.
واجهت الكنيسة الإنطاكية تحديات كبرى، وقاست صعوبات مؤلمة، واستهدفتها حروب وحملات صليبية وغير صليبية ، لكنها بقيت واستمرت كنيسة مصلوبة على خطى سيدها.لهذا فمن الطبيعي ان تكون القداسة متجذرة فيها ، على مدى العصور، وتالياً فإن الكلام قي هذا الموضوع ليس امراً طارئاً او مستجداً، بل الحقيقة، ان تاريخ كنيسة انطاكيا يقرأ من أفعال قديسيها وتأثيرهم وشهادتهم بالدم والكلمة.
لذلك، حسناً فعل الاخوة في اللقاء الارثوذكسي، عندما اختاروا ان يكون عنوان لقائهم الثقافي لهذا العام، القداسة في انطاكية الواحدة، وتسليط الضوء على وجوه مضيئة معاصرة، أثمرت وزناتها في النسك و الزهد والتواضع والرعاية وصلابة الموقف والشهادة للرب والأمانة لكنيسته.
كما اشكر الاخوة، في اللقاء الارثوذكسي لتكليفي الكلام عن المغبوط الدائم الذكر الارشمندريت الياس مرقص عميد الرهبنة الانطاكية و باعثها في العصر الحديث.
والكلام عن ابونا الياس، مهمةً صعبةً، فالرجل الراهب القديس البسيط، الرقيق والمرح، في حقيقته انساناً رؤيوياً في آفاقه وطروحاته، عملاقاً في تواضعه، مشعاً في انكفائه. حاضراً في غيابه، عميقاً في علمه ، غزيراً في ثقافته، تأخذ منه كل شيء رغم انه ترك وتخلّى عن كل شيء.
فأرجو الله ان يوفقني ويلهمني بروحه القدوس كي أحسن الفهم والتعبير والتعريف برجل جمع في سيرته الذاتية و مسيرته بين تجربتي القديس انطونيوس الكبير والقديس باخوميوس الكبير.
سئل القديس ارسانيوس بإستغراب:
انت معلم ابناء الملوك، و نزيل القصور ، ما الذي اتى بك إلى هذه الصحراء القاحلة؟!!.
اجاب القديس: تنقصني ابجدية ليست من هذا العالم، يتقنها هذا الراهب الاميّ، جئت إلى هنا كي أتعلمها منه!!!.
بهذه الكلمات عبر القديس ارسانيوس عن حاله و ايضاً عبّر عن حال كثيرين من المجاهدين في الروح، ومن هؤلاء حتماً الارشمندريت الياس مرقص.
فمن هو الارشمندريت الياس مرقص:
ان اردنا الكلام عنه ببضعة سطور و بإختصار: هو مرسيل اسبيرو مرقص المولود في 15 أيار 1921 في مدينة اللاذقية السورية، حائز على الاجازة في الحقوق، و قد عيّن رئيساً لدائرة محافظة اللاذقية، ومحافظاً بالإنابة ومن ثم قائمقاماً بالأصالة.
هو احد مؤسسي حركة الشبيبة الارثوذكسية سنة 1942، وقد تخلّى عن المناصب، وحياة العالم، وترهّب في دير القديس جاورجيوس دير الحرف سنة 1958، متخذاً من النبي الياس شفيعاً له، ينير له طريقه النسكي، ويعينه في جهاده الروحي، أسس رهبنة دير مار جرجس دير الحرف، لتستعيد الكنيسة الانطاكية، بحركته هذه، الحياة الرهبانية الشركوية التي غابت عن الكرسي الانطاكي لأكثر من مئة سنة.
له مؤلفات وترجمات ومقالات ومساهمات لاهوتية عديدة، وكان اباً روحياً لشباب وشابات وعائلات من سورية ولبنان والاردن، يعتبر الحق، ابرز من غاص في الحياة الروحية في الكرسي الانطاكي وحركها من جديد، منذ خمسينات القرن الماضي، له ايضاً المئات من الاحاديث والمحاضرات.
واجه ظروفاً صعبة، امتاز بتواضعه، ومحبته وسهولة الصلاة و موهبة الدموع والفرح والشكر والثبات والجرأة والإهتمام بالضعفاء و المنبوذين .
كثيرون كانوا ينتظرون مقالات ابونا الياس، ليغوصوا في أعماق الروحانية الارثوذكسية، فكانت كلماته، على بساطتها سهلاً ممتنعاً.
وإن أردنا التوسع قليلاً في الكلام عن تجربته، فلا بد من تسليط الضوء على بعض المحطات المفصلية والمؤثرة في حياته، قبل الدخول إلى الدير وبعده.
ابونا الياس: النهضوي- الرؤيوي:
بتاريخ 15 تموز 1941، بعث مرسيل مرقص، الطالب في كلية الحقوق آنذاك من اللاذقية إلى جبرائيل سعادة المصطاف في صلنفة الواقعة في جبال اللاذقية برسالة جاء فيها ما يلي:
” لست أدري ان كان (فلان) قد حدثك عن حركة التقويم الارثوذكسي التي يجب ان نؤسسها، حركة اخلاقية، حركة فكرية من هذه الافكار التي تقود العالم، سوف احدثك مطولاً عن هذا الموضوع في فرصة أخرى.”
وبتاريخ 18 تموز 1941 (أي بعد ثلاثة ايام من تاريخ رسالة مرسيل مرقص ) كتب جورج خضر (الذي لم يكن يعرف آنذاك مرسيل مرقص ولا جبرائيل سعادة) من بلدة حدث الجبة التي يصطاف فيها إلى البير لحام في ضهور الشوير رسالة جاء فيها:
” ولكن كيف نستطيع ان نعيد إلى الارثوذكسية نفحة الروح ان لم يكن بتأسيس حركة ارثوذكسية. ان هذا يتطلب عملاً جماعياً، وليس عملاً منفرداً، يجب ان نبعث الشعور الروحي… تنتظرنا اعمال كبيرة، والمستقبل لنا لأن يسوع معنا”
هكذا وفي ثلاثة أيام من شهر تموز من سنة 1941 ومن مكانين مختلفين في الكرسي الانطاكي تكلم شابان على تأسيس حركة ارثوذكسية، هدفها التقويم وبعث الشعور الروحي و تحقيق نهضة منشودة بعدما تفشى الإنحطاط والجهل في الوسط الكنسي الارثوذكسي.
ويصر المنتمون إلى الحركة ان تلازم التزامن لفكرة إنشاء حركة تعمل على نهضة الكنيسة ونفض الغبار المتراكم على تراثها و مواجهة الجهل المتفشي فيها في وقت متزامن من شخصين لا يعرفان بعضهما بعضاً إنما تمّ بفعل الروح القدس وليس بفعل بشري.
ولدت الفكرة، و وضعت موضع التنفيذ حيث ظهرت حركة الشبيبة الارثوذكسية إلى النور، في منزل جبرائيل الدبس في بيروت بتاريخ 16 آذار 1942، ثمرة اجتماعات ومداولات ومشاورات ونقاشات وصلوات مشتركة بين طلاب جامعيين.
وفي نيسان 1942، أسس مرسيل مرقص ومن ومعه من الشباب مركزاً للحركة في اللاذقية، وانتخب رئيساً له.
انطلق مرسيل مرقص بشهادته النهضوية بهمة رسولية، وارسل إلى الامين العام للحركة آنذاك جورج خضر رسالة مؤرخة في 11 ايار 1942 يخبره فيها عن نشاط الحركيين في تلك الأيام. وكيف اجتمعوا الأحد 10 أيار في الكنيسة وتناولوا من الكأس المقدسة.وانه تألفت فرقتان ، تضم الاولى الذين انهوا دراستهم الثانوية بينما تضم الثانية تلاميذ مدرسة الفرير، وتورد الرسالة أسماء الفرقة الثانية ومن بينهم اسبيرو جبور.
في 25 أيلول من سنة 1942 كتب جورج خضر إلى ألبير لحام رسالة نقتطف منها ما يلي:
” ان افضل مراكزنا دون منازع هو مركز اللاذقية فهناك نشاط منقطع النظير كما يذكر مرسيل مرقص في رسائله فهو يقول ان الحركة اصبحت معروفة في كل مكان وبين جميع العائلات ونحن ننتظر تحقيق الكثير في ذلك المركز.”
اذاً، كان مرسيل مرقص المحرك الاكبر لنشاط نهضوي منقطع النظير في اللاذقية وجوارها، فقد بدأت تتبلور عبر مراسلاته، ونقاشاته مع جورج خضر والبير لحام وسواهما رؤيا حركة الشبيبة الارثوذكسية، و ضخامة الدور النهضوي المطلوب من اعضائها، فقد ايقن هؤلاء الفتية الرسوليون، انهم لن يستطيعوا شيئاً ان لم ينسحقوا امام الكأس المقدسة، وان لم ينهلوا من الكتب المقدسة، فراحوا يلتهمونها، ويجوبون المدن والقرى سيراً على الأقدام جامعين الشباب، مبشرين بالكلمة، داعين لنهضة روحية تبدأ بحركة توبة في القلب.
بعد مدة وجيزة، يتولى مرسيل مرقص وظيفة ادارية في محافظة اللاذقية السورية. ويترقى هذا الشاب الهادئ المثقف بسرعة في سلم الوظيفة، ليتولى رئاسة دائرة المحافظة. وهي وظيفة محورية في عمل المحافظ وسائر الموظفين في المحافظة، واسندت إليه مهام المحافظ بالإنابة مراراً.
لم تمنع الوظيفة مرسيل مرقص من تكثيف دوره النهضوي ونشاطه الكنسي. وتعزيز تواصله مع الشباب وإرشاده للفرق، بل على العكس، كانت له بمثابة خبرة صقلت شخصيته و زادته إلتزاماً.
وعندما كلف بمهام قائمقام القطيفة الواقعة قرب دمشق، لم يهدأ، بل بادر بإتجاه الشباب الدمشقي ، داعياً اياهم إلى اللقاءات والحلقات مؤسساً لفرق جديدة ، تستقطب وجوهاً جديدة كما قال الياس الزيات، المؤرخ و رسام الايقونات الذي كان واحداً من هؤلاء.
خلال هذه المرحلة ، استمر مرسيل مرقص مكرساً ذاته للرب رغم الوظيفة وقد كثّف من قراءاته وابحاثه اللاهوتية، والفلسفية والتاريخية وتعمّق في فهم الكتاب المقدس وآباء الكنيسة ، وتبلورت رؤيته و وضحت.
وللدلالة عن ثقافة مرسيل مرقص اللاهوتية و سعة اطلاعه، انقل ما كتبه المثلث الرحمات الشماس اسبيرو جبور في رسالة له بعنوان حركة الشبيبة الارثوذكسية تنبش التاريخ الابيض للكرسي الإنطاكي مؤرخة في 17/5/1995 حيث جاء فيها ما يلي: ” في العام 1955 ألقى مرسيل مرقص (الاب الياس) محاضرة في كلية اللاهوت في أثينا اذهلت الاساتذة فقالوا له: هذا هو اللاهوت لا ما ندرّسه هنا “.
استمر مرسيل مرقص اميناً لمحبته الأولى، وملتزماً بوعي ونضج ما كان قد خطه إلى جبرائيل سعادة، عن الحاجة إلى حركة تقويم ارثوذكسية، فأيقن بوعيه وحسه الداخلي،ان النهضة في الكنيسة تتطلب بشكل أساسي وجود رهبنة. في وقت اندثرت فيه الحياة الرهبانية – لا سيما الرجالية منها- بشكل كامل منذ مدة تقارب المئة سنة.
وقد كتب:
” ان الكنيسة الانطاكية، تحتاج لوجود رهبنة، اولاً و قبل كل شيء، لأن فيها النهضة الاصلية، العميقة، الكلية ذات الاتصال الحياتي والجماعي بالروح القدس. وان الكرسي الانطاكي سيبقى بعوز إلى نهضة روحية وإستقامة عميقة امام الله إلى ان يوجد فيه اناس يكرسون ذواتهم لله تكريساً كلياً غير مشروط.”
حسم مرسيل مرقص امره، وقد شاركه هذا الوعي وهذه القناعة مجموعة من اخوته الحركيين مثل جورج خضر (المطران لاحقاً) و قيصر بندلي (المطران بولس لاحقا) و شفيق منصور ( المطران يوحنا لاحقاً) وسواهم. حيث تعاهدوا ان يكرسوا انفسهم كلياً للرب، وان يكونوا النواة الرهبانية الأولى ، الا انهم جميعاً عادوا واختاروا التكريس الكهنوتي في التعليم والرعاية والخدمة فيما هو استمر في المسار الرهباني .
امام رغبته بالتكريس الكلي، تخلى مرسيل مرقص عن وظيفته المرموقة، ومستقبله الواعد في الوظيفة، وهو حامل شهادة عليا في زمن قلّ فيه حملة الشهادات العليا، وقرر الشاب اللاذقي الهادئ المثقف التخلي عن المراتب الوظيفية المفتوحة امامه، واهمال هوايته بعزف البيانو، والخروج نهائياً من اللاذقية التي احبها، وترك كل شيء وراءه ،وتوجه إلى دير مار جرجس في دير الحرف، وبدأ حياته الرهبانية من الصفر لغياب شركة رهبانية ينتمي إليها وتكويّن خبرته الرهبانية فيها، فكان فعلياً الراهب الأول في الكرسي الانطاكي بعد طول انقطاع والمؤسس لشركة رهبانية، هي الأولى بدورها بعد اكثر من مئة سنة على اندثار مثيلتها .
وإن كانت الرهبنة في الكنيسة، قد بدأت بترك القديس انطونيوس للعالم وذهابه منفرداً للعيش في الصحراء، و تبعه كثيرون، للترهب بعزلة وإنفراد ، ومن ثم أتى القديس باخوميوس الذي نظم الحياة الرهبانية المشتركة ضمن الدير وبقيادة أب روحي.
فإن مرسيل مرقص، بما فعله، يكون قد قام في إنطاكية، بتجربة مشابهة للقديس انطونيوس في نيته الترهب دون الإنتساب إلى شركة رهبانية لعدم وجودها وشابه أيضاَ القديس باخوميوس بتأسيسه شركة رهبانية جماعية بقيادة أب روحي.
وهكذا، حضر مرسيل مرقص إلى دير الحرف في كانون الأول من العام 1957 بعدما سبقه إليه في تشرين الثاني من العام نفسه شفيق منصور (المطران يوحنا) وإيليا يعقوب من اللاذقية.
وفي 28/8/1958، وفي غروب ذكرى قطع رأس القدس يوحنا المعمدان، وبحضور المطرانين إيليا (كرم) و الياس (معوض) لبس مرسيل مرقص توب الإبتداء، وقد اتخذ مرسيل مرقص القديس الياس شفيعاً له.
وفي ربيع سنة 1961 استلم ابونا الياس رئاسة الدير لتبدأ بعدها نهضة كبرى من نوع آخر.
الدير واحة روحية نهضوية
عكف الأرشمندريت الياس مرقص على العيش كراهب، وتأسيس أخوية رهبانية، بحسب المفهوم الأصيل للرهبنة في الكنيسة الارثوذكسية، وسخّر مواهبه وطاقاته لتأمين استمرار العائلة الرهبانية لتكون بحسب قلب الله.
وبسبب حرصه الكبير على قيام تواصل حي بين الشركة الرهبانية التي يرأس، وآباء روحيين مختبرين للحياة الديرية، دعى الأرشمندريت الروماني الأصل الأب اندريه سكريما المغبوط الذكر، إلى مشاركة الرهبان في الدير واعطائهم الارشادات والتعاليم الرهبانية.
وقد تفاعل الرهبان وعلى رأسهم ابونا الياس، مع شخص وتعليم وأسلوب الأب سكريما، فعملوا على تحويل أحاديثه إلى عشرات الكتب التي لا تزال مصدر غذاء روحي لآلاف الناس في كل الأرض.
وعمل ابونا الياس على تحويل دير الحرف إلى واحة روحية نهضوية، بكل ما للكلمة من معنى، وتحول هو الأب الروحي لآلاف من شباب وعائلات، يعرّف ويرشد، وتحول الدير إلى محجة روحية، يقصده الآلاف سنويًا. وقد حرص الأب الياس مرقص ومن بعده ابونا يوسف على احتضان كل زائر للدير بالحب والكرم والفرح، لأنه آتٍ إلى بيت أبيه، أي إلى بيت الآب السماوي.
وقد حقق الأرشمندريت الياس في سلوكه وطريقة عيشه تزاوجًا فريدًا بين محافظته على مثال الراهب، الملتزم بأمانة ودقة كليتين نظم الرهبنة وقوانينها وأصولها وآدابها، ومعاشرة الكتاب المقدس بلا انقطاع ودقة ممارسة الحياة الطقسية والصلاة المستمرة، وبين التأثير النهضوي الكبير، الذي احدثه خارج الدير، جاعلًا من جدران الدير، الواحًا من زجاج، تنقل حضوره وعبير شهادته إلى أرجاء العالم كافة في ظاهرة مواهبية فريدة على هذا الصعيد.
كيف عبّر أبونا الياس عن الرهبنة
إن كل شيء صالح في هذا الوجود يأتي من محبة الله للعالم، هذه المحبة التي لا تدرك ولا تفسر ولا توصف، وتاليًا فإن كل صالح يأتي به الانسان، هو ثمرة لحركة الحب التي تتجاوب مع الحب الإلهي. هذه الحركة أي حركة الحب في القلب المتجهة نحو الرب للالتصاق به، هي التي تثمر الفضائل وأعمال الخدمة نحو الآخر.
ومن هذا المنطلق، عبّر ابونا الياس عن فهمه للحياة الرهبانية ونذورها ودور الأب الروحي وحرية أبناء الله وسواها…
كيف عبّر – بأي لغة ؟ ؟
تستوقفك عند الياس مرقص اللغة التي يكتب أو يخاطب فيها، فتغيب عنها العبارات التي تجعل الله مصدرًا للخوف أو الترهيب أو سببًا للخضوع الأعمى. فيستخدم لغة تعبّر بشكل سلس وجذاب، عن محبة الله التي تفوق الوصف وافتقاده للبشر وافتدائهم على الصليب…
فأنت تأتي الرب لتلبي بمحبة، دعوة مميزة بما يفوق الوصف أمام حضرة الله، انت تتوب أي تتحرك بالحب والانسحاق لا خوفًا من حساب، أو رهبة أو التفافًا على دينونة، بل انطلاقًا من الحب، والحب وحده فالحب والخوف لا يلتقيان. وقد كتب :
“الكنيسة بالضبط ليست وصايا وفرائض، بقدر ما هي محبة الرب والتماس وجهه…”
“الفضيلة ليست في الأعمال، بل في حركة القلب التي ضمن الأعمال، هي، في الاتجاه نحو الرب والالتصاق به والحنين اليه…”
كيف عبّر عن النذور الرهبانية ؟
كلنا يعرف أن الحياة الرهبانية هي ايفاء لثلاثة نذور هي العفة والطاعة والفقر، لكن ابونا الياس يزيد عليها نذرًا رابعًا هو الصبر، وان هذه النذور الأربعة هي بمثابة المسامير الأربعة التي يصعد بها الراهب على صليب المسيح فيحقق قيامة الطبيعة البشرية وكمالها. فالدعوة الرهبانية لا يمكن أن يلبيها الا الانسان الحر من داخله أولاً، لأنها جواب على تدبير الرب وخلاصه.
حول نذر العفة
يستهل أبونا الياس إحدى كتاباته التي تعبّر عن البتولية بقوله : “ليست العفة هنا عدم ممارسة العلاقات الجنسية وحسب، مستشهدًا بكلام القديس باسيليوس الكبير الذي قال فيه : “انا لم اعاشر امرأة ومع ذلك لست بتولًا”. فالبتولية الرهبانية ليست وضعًا خارجيًا بل حالة : هي الطهارة الداخلية القلبية، الطهارة بالمعنى الأساسي للكلمة. وان الزواج لا يناقض البتولية أصلًا، ولا البتولية تناقض الزواج. فسر الزواج هو سر الطهارة. وفي مقالة له عن العفة، يستهلها بصرخة من كتاب التريودي هي : “ويلي فقد صار جسدي لحمًا”.
نذر الفقر
كتب ابونا الياس :
الفقر للراهب يعني أولًا واقعًا اجتماعيًا، فلا يملك الراهب ولا يحق له أن يملك ما يملكه الآخرون وكما يملكه الآخرون، ولكن ما يهمنا (والكلام لأبونا الياس) هو المعنى الروحي لنذر الفقر. وهو معنى عميق يلقي عليه ضوءًا غريبًا.
للفقر وجه نسكي إذ هو حركة انسلاخ، حركة تجريد وتنازل اختياري عن خيرات العالم، وذلك لا احتقارًا للعالم بل تفضيلًا لما هو أفضل منه.
وللفقر معنى صوفيًا، فالراهب هو الانسان الذي يحقق بالفقر تجريدًا يعيده أكثر فأكثر إلى الله، فالرب يسوع يلّح كثيرًا على تجريد الذات، والفقر يحقق العزلة، العزلة المادية والعزلة الروحية التي لا بدّ منها للاتصال بالله.
وللدلالة على ضرورة وعي أهمية الفقر الاختياري ومكانته عند الراهب يورد هذا المثل : “قيل لراهب، لقد ورثت أباك، فقال : كيف أرث أبي وقد متّ قبله ! !
نذر الطاعة :
انها الفضيلة الأولى والأخيرة في حياة الراهب، انها فضيلة التزام الحياة كلها، فضيلة دخول الراهب في الحياة الإلهية ودخول الله في حياة الراهب.
بنذر الطاعة يلتزم الراهب ان يطيع رئيسه واخوته، متنازلًا عن ارادته الذاتية.
ان مسمار الطاعة هو المسمار الأكثر قساوة والأكثر ايلامًا ولكنه المسمار الأعمق والمتين – لأن بالطاعة نتنازل عن الكيان – وان لم نتخلّى عن كياننا، فلم نتخلّى عن شيء.
يختصر أبونا الياس بالقول: “الطاعة فخر الراهب”
نذر الصبر:
بالنسبة للأرشمندريت الياس مرقص فإن نذر الصبر يعطي النذور السابقة فحواها وقوتها، لأنه عند تقليد الراهب الاسكيم الرهباني يُسأل: أتحمل بصبر جميع أحزان السيرة الرهبانية وضيقاتها لأجل ملكوت السموات.
الحرية والأبوة الروحية:
يشدد أبونا الياس على ضرورة وجود أب روحي في حياة المؤمن الأرثوذكسي، لأن في ممارسة سر الاعتراف هناك حياة تعطى، ويحذر أبونا الياس من بعض المحاذير والمخاطر في علاقة الأب الروحي بالابن الروحي. فيطلب الانتباه من:
- عدم استعباد الابن الروحي، بل تنمية روح الحرية والمسؤولية لديه.
- معاملته حسب مرحلته وحسب وضعه وكيانه وخبرته الروحية، فكل شخص فريد.
- التحذير من التعلق العاطفي. (مثال الذي عدل عن الصلاة بعد موت أبيه الروحي).
فوظيفة الأب الروحي أن يوقظ قوى النعمة الكامنة في القلب منذ المعمودية، وذلك بمثاله واشعاعه الروحي… وأن يرافق على مراحل الابن الروحي ويأتي وقت ينسحب فيه الأب الروحي ويترك المجال لنمو وازدهار ما ينبت عند الابن.
فالحياة الروحية لا تعلّم، وليس الأب الروحي رئيسًا أو معلمًا بل شاهدًا للروح واندفاقه.
الأرشمندريت الياس مرقص: داعية الفرح
أما الصفة، الظاهرة البارزة عند أبونا الياس، فيما كتب أو علم أو تصرف هو هذه الدعوة المستمرة إلى الفرح وعيشه واختياره، حتى تظن نفسك معه أنك واقف أمام كتلة من الفرح، المعبر عنه بروح الدعابة والحبور، والمرح الراقي، الوقور، الذي لم ينقص من هيبة الراهب فيه، ووقاره وروحانيته، وجديته ذرة واحدة.
“فالحزن مفسدة النفس” كتب أبونا الياس، والرب يدعو إلى الفرح كل حين، نحن المبشرون بفرح عظيم، فلماذا نغرق في الحزن، ولا نغرف من الفرح، فرح الإنتصار على الموت، وأي معنى لتوبتنا ورجائنا وتطهرنا، إن لم نعشها بالفرح الذي يليق بها.
كلمات ومواقف تلتقي مع ما كتبه الأب ألكسندر شميمان:
“وكانت المسيحية، منذ بدايتها، إعلانًا عن الفرح الوحيد الممكن على الأرض” (…)
“لقد بشرت المسيحية بفرح جديد، شامل، فحولت النهاية إلى بداية. من غير الممكن فهم المسيحية من دون إعلان هذا الفرح، وبما أن الكنيسة هي فرح – فرح وحسب – إنتصرت في العالم، ولكنها خسرت العالم عندما خسرت ذلك الفرح، عندما كفت عن الشهادة بثقة، لذلك الفرح”.
ألا يلتقي كبيرنا الياس مرقص، بدعوته وسلوكه، مع القديس الفرح ساروفيم دي ساروف، الذي يردد دائمًا “يا فرحي لقد قام المسيح”.
كيف نحزن إن كنّا نؤمن أن الرب افتدانا على الصليب وأقامنا معه… بيسوع انتصرنا على الموت فأي أمرٍ في الدنيا يستحق أن نحزن من أجله ! ؟ يحسم أبونا الياس.
أبونا الياس مرقص: أيقونة حيّة
باختصار شديد، شكل الأرشمندريت الياس مرقص ظاهرة منيرة في تاريخ الكنيسة الانطاكية الحديث، حمل هموم الكنيسة وهموم العالم فاختار الرهبنة صليبًا كي يرفع به العالم إلى فوق.
ويكفي أن أشير إلى أن آخر مقال باشر بكتابته الأب الياس مرقص ولم يكمله، لم يكن عن أي موضوع كنسي مباشر، بل كان عن “مشكلة الانتحار”.
نعم، الراهب الذي ترك العالم يهتم ويتألم، لمعالجة مشكلة الانتحار.
انه الأرشمندريت الياس مرقص، المغبوط، الدائم الذكر، الذي كانت كلمته لي ولسواي عندما أغادره: أشكروا.. أشكروا الله في كل حينٍ.
وأنا هنا أشكر الله على نعمة اللقاء بكم، وأشكر حسن استماعكم، وأشكر الأخوة في اللقاء الارتوذكسي على تنظيم هذا النشاط والالتفاف إلى الوجوه المضيئة في كنيستنا الانطاكية.
أنا واثق لا بل مؤمن تمامًا، انه يشفع فينا ويصلي من أجلنا.
صلواته تشملنا جميعًا. آمين.
المحامي إبراهيم رزق