الكنيسة الأرثوذكسية والطقوس الغربية

mjoa Wednesday August 7, 1946 347

للأستاذ ألبير لحّام

 

كنيسة المسيح الارثوذكسية شرقية هي أم جامعة؟ هل الأرثوذكسية مقيّدة بشكل طقسي وقالب روحي واحد في الزمان والمكان؟ هل الأرثوذكسية وليدة ثقافة ما كبّلتها كبائل عبودية أبدية؟

  • أسئلة تستحق أن تُدرس مبدئياً لأن الانحطاط من الداخل والدعاية الغريبة من الخارج قد شوّها وجه الأرثوذكسية الحقيقي. ففي مصفّ العلماء جهال ومتجاهلون وفي مصفّ العوام متعصّبون عديدون.
  • أسئلة تستحق أن تدرس عملياً لسببَين: أولاً موقف الكنيسة الأرثوذكسية من الجماعات المسيحية التي تقترب منها، تعترف بإيمانها وتمارس أسرارها وتقبل تقليدها الحي وتطلب الاتصال بسلطتها قانونياً والدخول إلى شركتها، محافظة على طقس غير الطقس البيزنطي الملكي. إن حوادث كهذه ليست نادرة في تاريخ المسيحية المعاصرة خاصة وقد أخذت الأرثوذكسية تعلن عن ذاتها للعالم الغربي وأخذت تبدو حركة التفاف حولها في سائر البلاد الأوروبية والأميركية، أما في الشرق فالمسألة هي نفسها في ما يتعلق بالسريان والأقباط والموارنة والأرمن وإمكانية الاتحاد بهم إذا أرادت ذلك العناية الإلهية اتحاداً تامّاً مليئاً لا يقلّ بشيء عن اتحاد سائر الكنائس الأرثوذكسية، وبكلمة أوضح إذا حصل اتفاق في الأمور الجوهرية فهل يُفرض الطقس البيزنطي السائد الآن فرضاً إجبارياً أو لعلّه يمكننا أن نشترك مع أناس لا يعتمدون هذا الطقس ولكنهم أرثوذكسيون حقيقيون مالكون ملء الأرثوذكسية.

والسبب الثاني هو تحديد رسمي لموقف الأرثوذكسية جمعاء من الجماعات الأرثوذكسية الغربية الحالية المحافظة على طقوسها كما كانت قبل الانشقاق. فالدرس العملي يقتضي البحث في القيمة التي لوجود طقس غربي في الأرثوذكسية وفي تاريخ الحركة الأرثوذكسية الغربية.

أما الدرس المبدئي الذي سنقوم به في هذا المقال فيتطلّب الوقوف: 1) على طبيعة الكنيسة الأرثوذكسية وكيانها، 2) على نظرية الأرثوذكسية في الوحدة الكنسية، 3) على شهادة التاريخ الكنسي وأخيراً على التصريحات الرسمية منذ عهد القديس فوتيوس حتى القرن العشرين.

وسنحصر البحث بالطقوس الغربية دون الشرقية (غير البيزانطية) ونحن نرجو أن تولد هذه السطور في قارئها اتجاهاً جديداً وفهماً واسعاً للأرثوذكسية وللكنيسة فلا ينفر من كل شيء غربي كعنصر شر وضلال ولا يفاخر بشرقيته أو بروميته بل بأرثوذكسيته وبمسيحيته أولاً. إن الوحدة المسيحية لن تتم إلا عن طريق التوبة. فلنعترف نحن الشرقيون بما صدر عنا من مخالفات لروح الوحدة ومن جهة أخرى فلنعترف أيضاً بأننا لم نقم بواجبنا المقدس للاعلان أمام العالم أجمع بغيرة وحرارة عن الأرثوذكسية الصحيحة. “فالشعوب تسعى الآن عن الأرثوذكسية الحقة من حيث لا تدري ولكنها ستجدها لأنه مكتوب: اطلبوا تجدوا”.

 

المبادئ الأرثوذكسيّة والأنظمة الغربية

  • إن الكنيسة الأرثوذكسية بطبيعتها جسم حيّ يدعو جميع الأفراد والشعوب إلى الخلاص بالمسيح الواحد المتجسّد من أجل الجنس البشري بكامله. فمَن حدّ الكنيسة حدّ عمل المخلّص وجعله لا مخلّص العالم والمسكونة بل مخلّص زمان من الأزمنة أو فئة من الناس.

لذلك تميّز الكنيسة الأرثوذكسية في عقيدتها كما في أنظمتها القانونية وكما في تراتيبها الطقسية بين المطلق والنسبيّ، بين ما يُدعى الأساس وما يُدعى التدبير الكنسي (ايكونوميا). فالكنيسة الأرثوذكسية تعتقد “عقيدة” واحدة ولكنّها تعطي للأفراد حرية “الآراء اللاهوتية” (ثيولوغومينا) في شرح هذه العقيدة حسب شخصيتهم أو حسب أزمنتهم ضمن نطاق التقليد العام. كذلك أسس ترتيب الكنيسة واحدة ولا تتغيّر ولكن تطبيقها الشرعي يختلف مع الأعصر والبيئات وبنوع خاص لكل كنيسة مستقلة حقّ التصرّف في هذا التطبيق مع مراعاتها للأنظمة العامة (مثل الدرجات الكهنوتية).

هذا طابع خاص بالكنيسة الأرثوذكسية تمتاز به عن سائر الكنائس المسيحية يجعلها تجمع في آن واحد بين الواجب والاختياري، بين الحرية والنظام فلا تفرّق بدون انقطاع ولا توحّد باصطناع.

  • إن فكرة الوحدة في الكنيسة الأرثوذكسية هي فكرة “وحدة في اختلاف وتعدّد” فالوحدة هي مبدأ داخلي حياتي قبل أن تكون وحدة خارجية وطقسية. إن وحدة الإيمان والعقيدة والأسرار والحياة في المسيح والتقليد الأساسي هي جوهر الوحدة الكنسية. وما الطقوس والعبادات والتنظيمات إلا نتيجة لتطبيق هذه الحياة الواحدة في بيئات مختلفة فينتج عن ذلك تعدّد الطقوس والعبادات والتنظيمات حسب الشعوب والعناصر الإنسانية والنفسانية. ويفسّر العلاّمة (بولغاكوف) قول الكتاب “اذهبوا وتلمذوا الأمم” بأن الرب اعترف لكل أمة بحق الاحتفاظ بطابعها التاريخي ضمن وحدة الحياة الكنسية كما أن العلاّمة نفسه يعتبر تعدّد اللغات يوم العنصرة برهاناً آخر عن هذا التعدّد في الوحدة.

لذلك، فمبدأ الوحدة الكنسية لا يتنافى مع وجود طقس أرثوذكسي غربي وأنظمة غربية في الكنيسة الأرثوذكسية. لا بل أن هذا المبدأ يقود حتماً إلى إيجاد مثل هذا الطقس عند الشعوب الغربية لئلا تقع كنيستنا في خطأ غيرها من الكنائس التي يضيع فيها العنصر الاجتماعي التاريخي في توحيد إجباري مصطنع لكل مظاهر الحياة الدينية.

  • إن التاريخ الكنسي يعلمنا أن الوحدة كانت على قاعدة الاشتراك في الإيمان العام المدوّن في الدستور الشريف والمجامع المسكونية التي اعترفت به الكنيسة كلها، مع إعطاء الحرية لكل كنيسة على حدة في المسائل الثانوية التي قد تعودتها منذ أمد بعيد.

وإذا رجعنا إلى العهد الرسولي نرى أن الكنائس التي من الأمم كان لها عوائد مخالفة لعوائد الكنائس التي من اليهود ومع ذلك كانت متحدة معها في الإيمان الواحد بالمسيح المخلّص حتى أن المجمع الرسولي لم يرد أن “يثقل على الراجعين إلى الله من الأمم” (أع: 15 – 10 و19) ولا أن يضع عليهم ثقلاً آخر غير الأشياء الواجبة” (أع: 15- 28).

وكذلك نرى في الكنيسة الأولى اختلافات بشأن التقليد الرسولي المتعلق بعيد الفصح ولم تمنع هذه الاختلافات اشتراك الكنائس في الوحدة حتى أن القديس بوليكربوس لما زار في رومية أسقفها أنيكيتوس وباحثه دون نجاح في الأمر لم يحب أن يتماديا من أجلها في الخصام بل تقاربا وأقاما خدمة القداس الإلهي معاً وقدّم أنينكيتوس ضيفه على  نفسه في الخدمة ثم تفارقا على سلام.

ويشهد التاريخ الكنسي بصراحة عن وجود طقوس عديدة متعددة في الكنيسة الأولى سواء في الشرق أو في الغرب. فهناك الليتورجات اليعقوبية والمرقسية والافريقية والامبروسية والرومانية والليونية الخ… ثم توحدت نوعاً ما هذه الطقوس في الشرق من جهة وفي الغرب من جهة أخرى ولكنها ما زالت متشابهة في الأساس. ولا يسعنا إلا أن نعترف بوجود طقس أرثوذكسي غربي قبل أن أفسدته بعض التغييرات الدخيلة.

  • وعلى هذا المنوال جرت الكنيسة في كل الأمور التي لا تمس جوهر الإيمان المعترف به بإجماع التقليد. هذا ما أورده القديس فوتيوس الشريف المدافع عن سلامة الوديعة، إذ قال بصورة واضحة جليّة: “إنه في الأمور التي لا تمس بجوهر الإيمان ولا السنن التي حددها اتفاق صوت الكنيسة بأسرها، فيمكن أن يكون لكل قوم عوائد وقواعد شرعية خصوصية غير التي يتمسك بها غيرهم وأن كل ذي عقل سليم يحكم بأن الذين يتمسكون بهذه الأمور غير الجوهرية لا يضلون كما أن الذين يرفضونها لا يتعدون الناموس” (رسالة فوتيوس الثالثة عدد 6).

وفي عهد البطريرك ميخائيل كيرولاريوس قام البطريرك الأنطاكي بطرس المحب السلام ينبه أخاه القسطنطيني على هذه الأمور متضرعاً إليه أن يكون متساهلاً فيما يختص بالعوائد اللاتينية المخالفة للعوائد الشرقية (كحلق اللحى ولبس الخواتم الخ.) منوهاً أن مثل هذه الاختلافات لا توجب القطع من الشركة إلى أن يقول: “فأنا أظن أن هؤلاء إذا أصلحوا زيادتهم في دستور الإيمان فلا يبقى لنا شيء نطلبه منهم بل يمكننا أن نغض النظر عن مسألة الفطير أيضاً. فأتضرع إليك أن توافقني على هذا الرأي لكي لا نخسر كل شيء بسبب طلبنا كل شيء” ولا يخفى أن هذا الرأي موافق لوصية بولس الرسول القائل “فلا يحكم أحد عليكم في أكل وشرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت.”

وفي القرن الثامن عشر كتب بطاركة الشرق رسالة إلى أساقفة الكنيسة الانكليكانية سنة 1723 جاء فيها ما يأتي: “ان من جهة باقي العوائد والطقوس الكنسية وإصلاح الخدم الشريفة فهذا أمر لا يصعب إصلاحه متى سرت العناية الإلهية بصيرورة الاتحاد لأنه واضح من كتب التواريخ الكنائسية أن بعض العوائد والطقوس كانت مختلفة، وأما وحدة العقيدة والإيمان فلا تزال سالمة.”

وعادت كنيسة القسطنطينية العظيمة في جوابها إلى رسالة البابا لاون سنة 1890 فأكّدت هذا المبدأ الدائم في الكنيسة الأرثوذكسية إذ قالت: “وبقولنا هذا لا نعني الاختلافات المتعلقة بترتيب الفروض الكنائسية ولا النشائد والحلل الشريفة وما أشبه ذلك من الأمور التي كانت قديماً أيضاً متعددة الهيئات غير أنها لا تمس أبداً بجوهر الإيمان ووحدته وإنما نعني الاختلافات الجوهرية المتعلقة بعقائد الإيمان الإلهي وبالإدارة القانونية التي أودعها الله في كنيسته المقدسة.”

 

وأخيراً فقد أكد يواكيم الثالث البطريرك المسكوني عام 1902 في رسالته الشهيرة عن اتحاد الكنائس أنه من الضروري التساهل في جميع المسائل الاعتقادية الثانوية وفي الطقوس والإصطلاحات والآراء اللاهوتية التي تمسكت بها كنائس الغرب منذ قرون عديدة فصارت عندهم مكرّسة ومتمكنة بحيث أصبح من المستحيل أن يتركوها بدون ألا يزعزعوا عقائد الإيمان الأساسية كما أنه من المستحيل أن يترك الأرثوذكسيون الشرقيون عوائدهم لأنها قد صارت هي أيضاً صخرة غير متزعزعة.

فمن جميع ما تقدم نرى أن مبدأ الوحدة الأرثوذكسية يقبل بوجود اختلافات في الطقوس والعوائد ضمن الكنائس الخصوصية المشتركة في وحدة الإيمان والأسرار وأن الكنيسة في العهد الرسولي وقبل انشقاق الغرب وبعد هذا الانشقاق ما زالت سائرة على نفس الخطة مفاخرة بالحرية التي نالها أبناء الرب والتي بموجبها يدخلون جسده السري محافظين على شخصيتهم ومميزاتهم الخاصة المستنيرة بنور الحق والحياة.

مجلّة النور آب 1946، ص 172-175 + 191

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share