النهضة الصحيحة على ضوء العنصرة

ألبير لحام Tuesday June 7, 1949 288

بقلم المحامي ألبير لحام

 

كل نـهضة في المسيحية تـهدف إلى اقتناء المسيحيين للروح القدس ولا تتمّ إلا بـهذا الروح الذي يكمّل كل الأشياء. كل نـهضة دينية في الكنيسة هي حتماً عنصرة لأبنائها وما كانت العنصرة الأولى إلا أعظم نـهضة دينية عرفها التاريخ انقلبت فيها جبانة الرسل شجاعة وجمودهم حركة وخمولهم تبشيراً جريئاً بالإله الناهض من الأموات لخلاص العالم.

ونحن الآن نشبه في ضعفنا وجمودنا هؤلاء الرسل قبل حلول الروح القدس عليهم. وعلينا أن ننتظر مثلهم حلول هذا الروح إذا كنا نريد أن تقوم نـهضتنا في الطائفة. ولكن كيف يجب أن ننتظر حلوله وماذا يجب أن نعمل لكي نستحق انسكاب هذا الروح علينا وإتمام عمله فينا؟

يقول لنا كتاب الأعمال أنه “لما حضر يوم الخمسين كان الجميع مجتمعين معاً في مكان واحد” (أع: 2، 1) ويقول لنا أيضاً عن العمل الذي كان التلاميذ منهمكين فيه، في هذا المكان حيث كانوا مجتمعين “هؤلاء كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة” (أع: 1، 14).

…وعندئذ هبّت ريح الروح العاصفة وظهرت على كل واحد من الحاضرين ألسنة كأنـها من نار وامتلأ الجميع من الروح القدس (أع: 2، 2 و3).

إن كلمات الكتاب هذه وإن كانت تتعلّق بحدث تاريخي معلوم إلا أن لها قوة الأبدية لأن هذا الحدث عينه الذي تشير إليه له قوة الأبدية. واليوم مثله منذ ألفَيّ سنة يحلّ الروح على أعضاء الكنيسة ويحقّق فيهم كل وعي وكل تجدّد ولكن بشرط أن يكون هؤلاء – مثل التلاميذ – مجتمعين في مكان واحد وأن يواظبوا معاً وبنفس واحدة على الصلاة والتضرّع.

فالروح لن يحلّ علينا ولن يعمل فينا إذا اجتمعنا في مكانٍ واحد ولكن بغير صلاة، كما أنه لن يحلّ علينا ولن ينهض بنا إذا ما كنّا نصلّي ولكن على انفراد. إن الروح القدس سيُعطَى لنا والنهضة التي ننتظرها بفعله ستتمّ فقط إذا ما اجتمعنا للصلاة في مكانٍ واحد، وإذا ما صلّينا، مجتمعين، بنفسٍ واحدة.

وأما المكان الواحد الذي يجب أن يجتمع فيه جميع الأرثوذكسيين لقبول روح التجدّد والانبعاث، فهو تلك العلّيّة الروحية نفسها التي كان الرسل والنساء والأخوة مجتمعين فيها يوم العنصرة العظيم، أعني بـها الكنيسة. ففي تلك العلّيّة وحدها – كما في مكان واحد – يحلّ أبداً روح الرب المحيي على جميع الحاضرين. هنا تنسكب النعمة باستمرار، هنا تُوزَّع المواهب، يُكمَل كل نقص وكل ضعف، هنا تُبعث الحياة، هنا يزول الموت، هنا، بحلول الروح الكلّي قدسه، يبطل كلّ شرّ، وكل خطيئة تندحر، هنا نُـخلق جميعاً أبناء للعليّ في كنيسته البريئة من العيب “فليُسارع إذاً إلى هذا المكان جميع العاملين في حقل النهضة الأرثوذكسية وليدخلوا إلى الكنيسة حيث الرسل والآباء، ولينفدوا إلى جسد المسيح، هذا المكان الروحي الواحد حيث تجتمع زوايا المسكونة الأربع وتلتقي العصور والأجيال.

وفي هذا المكان يجتمعون معاً للصلاة. لا للمجادلة ولا للمنازعة ولا للمفاخرة، بل للانسحاق والمحبة والابتهال، فالروح القدس لم يحلّ على التلاميذ إلا لأن الصلاة كانت محور اجتماعهم. لأن الروح لا يحلّ في كل اجتماع. هو لا يحلّ فينا إذا اجتمعنا للنقد والهدم والتقريع، وعقدنا الاجتماعات الغوغائية الصاخبة حيث تغلب المظاهر الخارجية البرّاقة، وأطلنا البحث في الأمور الإدارية والمالية والقانونية، وأظهرنا الكثير من الحنكة والدهاء والبراعة، وعكفنا على وضع المشاريع التنظيمية والعمرانية. أجل إن الروح لن يُعطى لنا والنهضة المنشودة لن تقوم على سواعدنا، إذا كانت اجتماعاتنا بـهذا الروح ولمثل هذه الغايات، إنما سيحلّ هذا الروح فينا إذا ما كنا مع الرسل والأخوة في يوم العنصرة، مجتمعين بمحبة واتفاق، “للصلاة والطلبة” في مكان واحد هو جسد المسيح.

ولنا من تاريخ الحركات الإصلاحية التي قامت في كنيستنا الأنطاكية في العشرين سنة الماضية دليلاً على صحّة ما نقول. لقد اجتمع الأرثوذكسيون كثيراً في هذه الفترة من الزمن للبحث في شؤونـهم الطائفية ولبعث أمجادهم الغابرة. ولكنهم قلّما اجتمعوا بروح الصلاة والمحبة. ولذلك لم تأتِ أبحاثهم واجتماعاتـهم بنتيجة. لقد انتظروا كل شيء من قوة آرائهم ومتانة نظرياتـهم وتفوّق مقدرتـهم الشخصية، ونسوا أن النهضة إن هي إلا من عطايا الروح  الذي يخلق كل شيء ويجدّد كل شيء، وإن موهبة هذا الروح هي الجواب الإلهي المجّاني الحرّ على صلاتنا وانسحاقنا واجتهادنا الداخلي. وهذا ما جاءت الحركة تنادي به منذ بضع سنوات. هذا ما جاءت تذكّرنا به، نحن معشر الأرثوذكسيين. ولذلك عقدت الحركة حتى اليوم عشرات الألوف من الاجتماعات الروحية في سائر أنحاء البلاد السورية واللبنانية، كان الشباب والشابات فيها، وما زالوا، يصلّون معاً ويطالعون معاً الكتب المقدّسة ويتفهّمون معاً طقوسهم وعقائدهم ومبادئهم المسيحية، ويمارسون حياة الأسرار والمحبة والتسامي. فإذا بنهضة دينية وثّابة تبدو طلائعها في أفق الأرثوذكسية وإذا بعملٍ روحيٍّ جبّار ينبثق عن صلاة الحركة واجتماعاتـها وحياتـها الداخلية.

وهكذا برهنت الحركة أن النهضة المنشودة لن تقوم إذا اجتمع الأرثوذكسيون بغير صلاة أو صلّوا بغير اجتماع. لأنه كما أن الروح لا يحلّ في كل اجتماع كذلك فموهبة الروح لا تُعطى لكل صلاة. إن الروح القدس لم يُعطَ للتلاميذ حين كان كلّ واحد منهم منعزلاً مخدعه بعيداً عن الآخر في صلاته. إنّما هبّت ريح العنصرة عندما كان التلاميذ معاً يصلّون بنفسٍ واحدةٍ مجتمعين. فالروح لا يهبّ حيث يصلّي الفرد منعزلاً عن الكنيسة مرتجلاً في صلاته ارتجالاً. إنّما النهضة الدينية الخلاّقة ستتحقّق عندما يخرج المرء من عزلة غرفته ويشترك مع إخوانه في الصلاة العامّة ويتّحد بصلاة الرسل والآباء المجتمعين في علّية العنصرة مردّداً معهم الصلوات التي ألّفها هؤلاء الآباء القديسون وردّدها معهم ومن بعدهم سائر الأجيال. ولذلك فللصلاة المجموعية، قيمة فائقة في إحياء الروح المسيحية كما أن ممارسة الطقوس الأرثوذكسية التي تربط بين صلاتنا وصلوات الآباء والرسل شرط أساسيّ لتحقيق نـهضتنا في الطائفة. وقد أعارت الحركة هذه الناحية اهتماماً كلّياً ليس في اجتماعات أعضائها الخاصّة فحسب، إنما في الصلوات التي تدعو إليها المؤمنين بمناسبات مختلفة فتجمعهم في الخدمة الإلهية التي تُقام كل يوم أربعاء وجمعة في اللاذقية وفي البراكليسي الذي تقيمه مساء كل جمعة في بيروت وفي قانون الصليب الذي يُتلى في أول جمعة من كل شهر وفي غيرها من المناسبات.

والحركة تنتظر من هذه الصلاة التي يشترك فيها المسيحيون مجتمعين بركة فائقة من الإله القدّوس في جهادها لبلوغ النهضة المنشودة.

ذلك أن الحركة مقتنعة كل الاقتناع أن النهضة التي يرجوها كل أرثوذكسي ما هي إلا جزء من الثورة الروحية الكبرى التي تـمّت يوم العنصرة العظيم في علّية أورشليم الجديدة ونفحة ذكية من نفحات تلك الريح العاصفة أبداً في كنيسة المسيح حيث يجتمع المؤمنون للصلاة بنفس واحدة، واستمرار لعمل الروح المحيي، روح التجدّد والانبعاث، الذي يوزّع المواهب بحرّية وسخاء لبناء جسد المسيح.

 

  مجلّة النور حزيران 1949، ص 129-131

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share