بقلم الاستاذ ألبير لحام
نص الكلمة التي ألقاها الاستاذ ألبير لحام، في الجامعة
الأميركية في بيروت، لمناسبة الذكرى العاشرة لحركة
الشبيبة الأرثوذكسية.
“فلينظر كل واحد كيف يبني. لأنه لا يستطيع أحد أن
يضع أساساً غير الموضوع الذي هو يسوع المسيح”
صاحب السيادة، آبائي المحترمين،
سيداتي سادتي،
لعشر سنواتٍ خلت، عندما قامت حركتنا تدعو الشباب الأرثوذكسي إلى حملة التجدّد الروحي في الطائفة، كان اليأس والقنوط قد استوليا على الأكثرية الساحقة من أبناء الملّة، بسبب فشل الجهود التي بُذلت مدة عشرين سنة متواصلة في حقل الإصلاح الطائفي.
ومع ذلك لم تشك الحركة لحظة واحدة بأن الغاية التي تجنّدت لخدمتها سوف تتحقق بنعمة الله، لأنـها توقن أن الكنيسة التي تنتمي اليها هي قاعدة الحق وينبوع الحياة، وأن القضية الإصلاحية لم تصل إلى ما أصابـها من الفشل، إلا لأنـها لم تنبسط على ضوء الإيمان المسيحي والرسالة المسيحية، وبروح المحبة التي ترجو كل شيء وتقدر على كل شيء. ورأت الحركة أن الحجر الأساسي في بناء الإصلاح هو بسط القضية على وجهها الصحيح كقضية روحية تُثار وتُـحـَل في كنيسة المسيح، لا في هيئة سياسية اجتماعية تُدعى الطائفة. واعتبرت الحركة أن المواد التي يتألّف منها الإصلاح إنما هي مواد بشرية قبل كل شيء. فقام شباب الحركة يؤهلون أنفسهم وإخوانـهم ليصيروا حجارة حياة في صرح التجدد، يشهدون للحق ويعملون به ويدعون إليه، يدرسون ويصلّون ويتقدّمون في الحكمة والقامة والنعمة أمام الله والناس.
وظن الكثيرون أن الحركة كانت في هذا كله غارقة في بحر من الخيالات والأوهام، تعيش على هامش الحياة الطائفية، بعيدة عن الواقع المادي الراهن، تعمل خارج ميدان الإصلاح الحقيقي. أليس الإصلاح الحقيقي في نظر الكثيرين أن نقضي على الفوضى في الإدارة وعلى التبذير في الأموال، وأن نجمع أبناء الملّة في كتلة واحدة متراصّة الصفوف، قوية الجانب، يحسب لها في المجتمع كل حساب!
إلا أنه يبدو أن تطوّر الأحداث الطائفية في السنوات الأخيرة قد أظهر خطأ المنتقدين وصواب العقيدة الحركية.
ذلك أن الإصلاح الإداري والمالي قد أصاب في السنتين الماضيتين، تقدّماً محسوساً. فقد قام المجلس الملّي الأخير بخطوات حميدة لتنظيم الإدارة والمؤسسات الملّية كما أن لجنة أمناء الأوقاف بذلت جهوداً كبيرة بضبط حساباتـها وتنظيم أمورها وتنمية مواردها فوفقت في مجهودها وسجلت بذلك صفحة مبرورة. ومن جهة ثانية فقد اقتنع ذوو النيات الحسنة بأن الحالة الحاضرة أصبحت بعد هذه الخطوات الموفّقة تتطلّب تنقية القلوب من الأحقاد، وتناسي الخلافات وتضافر الجهود في سبيل عمل إنشائي إيجابي بنّاء.
إلا أنه ما كادت الطائفة تبلغ هذه المرحلة، حتى واجهت مشكلة بالغة الخطورة. فقد تبين لها بوضوح أن الإصلاح المادي والإداري الذي كان يعمل له الكثيرون لم يكن إلا الناحية السلبية من الإصلاح الحقيقي، فإن المشكلة كل المشكلة كانت في تحديد الغاية التي من أجلها يجب أن تستخدم قوى الطائفة وأموالها. وبعبارة أفصح كانت نتيجة تحسين الأوضاع المادية في الطائفة وتلهّف العناصر الطيبة فيها للقيام بعمل إيجابي، شعور الجميع بالنقص التوجيهي في العمل الإصلاحي، وبروز قضية الإصلاح مجدداً، وبصورة حادة، لا كقضية مادية إدارية وقانونية، بل كقضية فكرية روحية وتوجيهية.
لقد شعر المخلصون من أبناء الطائفة بأن العمل الإصلاحي الجدي هو بحاجة الى قيادة توجيهية حكيمة نَيِّرة، مستندة الى مبادئ صحيحة راسخة، تنبثق من جوهر الكيان الأرثوذكسي وتؤول مباشرة الى خدمة رسالته. لقد شعروا بأن العمل الإصلاحي البنّاء لا يمكن أن يقوم على الارتجال، مهما جاء الارتجال موفّقاً، أو أن تقوده العاطفة مهما كانت مخلصة، لأن لهذا العمل هدفاً معيناً هو بالذات هدف الطائفة من وجودها. لقد أيقنوا أن على ضوء هذا الهدف وحده يقتضي التمييز بين ما هو حيوي وما هو ثانوي في نشاط الملّة ومشاريعها، ووضع التوجيه العام الذي يجب أن يسيطر على كافة مرافقها. وبتعبير آخر، أدرك المخلصون أنه يجب تحديد العمل الاصلاحي البنّاء بالاستناد الى هدف الكنيسة في الوجود وأنه يجب توجيه المجهود الطائفي توجيهاً يتفق مع هذا التجديد حتى يأتي حاسماً فعالاً. ولا تكون نتيجته التلهّي بالقشور أو الترقيع المؤقت، ولا يذهب هذا المجهود سدىً في مشاريع لا تقدّم الرسالة الأرثوذكسية خطوة واحدة الى الأمام لا بل تضرّ بـها في النهاية.
وفي هذه المرحلة التي قد تكون حاسمة في تاريخ الطائفة، حين تفتش هذه الأخيرة عن الفكرة التي تتجنّد لخدمتها بعد جمع صفوفها وتنظيم مواردها، تقف الحركة مرة أخرى في إخوانـها الأرثوذكسيين، مذكّرة ومحذّرة.
إنـها تذكّر أبناء الكنيسة بدعوتـهم في المسيحية وبرسالتهم في العالم، تذكرهم بأنـهم جسد المسيح وهياكل الروح القدس. نور العالم. ملح الأرض. أهل بيت الله. إنـها تذكّرهم بأن كنيسة المسيح التي يؤلفونـها ليست مؤسسة زمنية أرضية، وأن مملكة المسيح ليست من هذا العالم، وأن المحبة التي بالمسيح هي الطريق والحق والحياة لكل إنسان آتٍ الى العالم.
إنـها تذكّرهم ثم تحذّرهم. تحذّرهم من الانقياد الى كل تعليم وتوجيه لا يتفق مع دعوتـهم وجوهر مسيحيّتهم: تحذّرهم من الدعاة الى مجد عالمي باطل وإلى سلطان سياسي زائل وإلى نفوذ قضائي زمني خابل خاتل.
وتحذرهم من الداعين إلى طائفة اجتماعية مزدهرة، تتربع في المظاهر وتتباهى بالأرقام، تخلط بين المحبة المسيحية وأية خدمة اجتماعية وثقافية وتسلخ الحياة المسيحية عن المسيح، مبدئها الفعال وينبوعها الفياض.
وتحذر الحركة أيضاً من دعاة العقائدية المتحجّرة والتقليدية الجوفاء، الذين وسعوا الشقة بين العقيدة والحياة، وبين الفكرة وتطبيقها، وتلذذوا بالمجادلات العقلية والمماحكات الكلامية، وتوقفوا عند الحرف الذي يقتل والشكل الذي يميت، دون الروح الذي يحيي ويبدع، فحادوا عن طريق المحبة في مملكة المحبة السمحاء، وكانوا عثرة في طريق كل تحرر وانطلاق.
وأخيراً تقف الحركة في الطائفة مرشدة الى نـهضة تكون خليقة بدعوة المسيحيين في الكنيسة، لائقة بدور الأرثوذكسية، ورسالتها في العالم. هي لا ترشد الى مثالٍ من نسيج خيالها، ولا تقود إلى فكرة هي وليدة عبقريتها، ولا تشير الى أساس جديد وضعته بذاتـها.
بل تقف الحركة مرشدة الى صخرة الدهور والأجيال، الى الحجر الذي طالما رماه البنّاؤون في حقل الملّة، وهو رأس الزاوية في بناء النهضة الصحيحة، مبدأ كل إصلاح إيجابي وهدف كل نشاط طائفي.
أجل في هذه الساعة التي قد تكون حاسمة في تاريخ الطائفة وتقرير مصيرها وتوجيهها، تقف الحركة لتردد مع الرسول: “ألا فلينظر كل واحد منكم كيف يبني. لأنه لا يستطيع أحد أن يضع أساساً غير الذي وضع منذ الأزل الذي هو يسوع المسيح”.
فهل يسمع الأرثوذكسيون صوت الرسول، إن كانوا لصوت الحركة غير مكترثين. وهل تختار الطائفة أن توجّه نـهضتها توجيهاً متناسقاً إيجابياً ابتداءً من هذا الأساس، فتهمل كل اهتمام لا يقرّب من المسيح الذي هو الهدف الأول والأخير. ولا تعتني بمشروع إلا بمقدار ما يعود الى السيد الرب، ولا تعتمد من الوسائل إلا ما يتفق وهذا التوجيه الأساسي؟ أم تبني على أساس من الرمال الواهية شبه نـهضة ما تلبث أن تتضح سراباً بل خراباً؟ أم أنـها ستكتفي بالاستمرار في سياسة الارتجال والترقيع وفي السير مع ريح العاطفة؟
لقد قامت الحركة بواجبها إذ شهدت في الطائفة للحق الذي في المسيح. وهي ستستمر في الدعوة والشهادة ان شاء الله.
يبقى على الطائفة نفسها، على الأرثوذكسيين جميعاً، عليكم أيها السادة الأخوان، أن تقبلوا الدعوة والشهادة، فتقرروا بذلك مصير الاصلاح وتفسحوا لتيار التجدّد مجال التوفيق في هذا الكرسي الانطاكي القديم المقدس. آمين.
مجلة النور تاريخ آذار ونيسان 1952، ص 60-63.