بقلم الأستاذ ألبير لحّام
لقد فرد الفيلسوف الفرنسي بركسون صفحات رائعة لتحليل مفهوم الوقت الموضوعي المحدَّد بسنوات وشهور وأيام وساعات، وأوضح بصورة لا تترك مجالاً للشكّ والتردّد أن التحديدات العددية الشكلية لا تنطبق على الحقيقة الإنسانية والنفسانية لأن الحياة – حياة الإنسان وحياة العالم – هي تتابع مستمرّ لا تقطّع فيه، ولأن حواجز الوقت العددي هي أبعد من أن تعبّر عن حقيقة هذا الاستمرار.
ليس من العسير، على عتبة العام الجديد، أن نتـثبّت صحة هذا التحليل وأن نتبين ما في تحديدات البشر هذه من الاصطناع والبعد عن واقع الحياة. إن نظرة نلقيها على نفوسنا وعلى العالم في مطلع ما يسمّونه “العام الجديد” لكفيلة بأن ترينا أن شيئاً جديداً لم يحدث على وجه الأرض وأن تلك اللحظة العجيبة التي دَوَت فيها صفّارات الابتهاج وأطلقت فيها الأسهم النارية، لم تفعل مفعول العصا السحرية في حياة الأفراد والشعوب ولم تحوّل، بحال من الأحوال، سير الأمور القديمة الماضية. فهنا تستمرّ ثورة الطبيعة على الإنسان: سيارة تتدهوَر في وادٍ سحيق، وطائرة تحترق فوق جبل، وباخرة تجنح إلى الشاطئ، وصاعقة تنقضُّ على بيت حقير. وهناك يتابع الإنسان محاولاته اليائسة ونضاله المرير في سبيل الحياة: أسياد يظلمون ويتعسّفون، ومحرومون يثورون ويتظلّمون، وأناس أعمت العصبية قلوبـهم وطغى الطمع على نفوسهم يقتتلون ويتحاربون، وسياسيون يتجادلون ويتفاوضون، ودُعاة مبادئ وعقائد متنوّعة يبشّرون ويتبجّحون. وفي كل مكان، في وسط هذه الحمّى من الضجيج والآلام والآمال، يتابع الموت بصمت صراعه الدامي مع الحياة، فتسقط في حفرته الأجساد وتـهوى في جحيمه النفوس.
وهكذا، وإذا كان التطوّر الإنساني – على حقيقته التي لا تُنكر – غير مرتبط بمدّة دوران الأرض حول الشمس، أي إذا كان ما يسمّونه “رأس السنة الجديدة” لا يشير بصورة حتمية إلى بداءة عهد جديد، يحقّ لنا أن نتساءل عما إذا كان هذا اليوم يشير إلى حقيقة إنسانية تبرر حفظه من قبل الإنسان العاقل الواعي، أي إذا كان لعيد رأس السنة من معنى على الإطلاق.
لا بد من التنويه هنا بأن الإنسان ليس كائناً روحياً فحسب، بل هو مؤلَّف من جسد أيضاً، وهو يعيش في الزمن ويتعامل، في محدودية الزمن، مع اخوانه وأقرانه. فتقسيم الزمن إلى شهور وسنوات يستند في الواقع الى تلك الحقيقة ويـهدف الى التعبير عنها والى مواجهة مقتضياتـها العملية. فيوم رأس السنة هو اليوم الذي اصطلح عليه معظم البشر لإغلاق حساباتـهم وبيان ميزانيتهم ووضع موازنتهم للفترة اللاحقة من الزمن.
غير أنه إذا كانت تلك الضرورات المادية كفيلة بأن تحمل معظم البشر المشتبكين في الحياة العملية على اعتماد يوم رأس السنة في حساباتـهم وأعمالهم، فإنـها لا تكفي، ولا ريب، بحد ذاتـها، لحملهم على التعييد لهذا اليوم وعلى الابتهاج به. وبعبارة أخرى، إن تلك الاعتبارات العملية والمادية ليست سبباً معقولاً لاشتراك الإنسان في الفرح بمناسبة العام الجديد.
وفي الواقع، فإن الأكثرية الساحقة من الناس لا تعيّد لذلك اليوم بسبب تلك الاعتبارات؛ بل يبدو أن الدافع إلى ابتهاجها فيه هو مرحلة جديدة من مراحل حياتـها على الأرض بسلام. إنـها تعيّد لانتصارها مرة أخرى على الموت. فتتبادل التهاني كمن نجا من خطر مبين وتغرق في نشوة من الفرح، ترقص وتسكر وتقامر وتعربد، وتجدّد الآمال بمستقبل تتوهّم أنـها سيطرت عليه. ولكن سرعان ما يتبين للانسان العاقل، المفكّر في واقع الحياة، أن ما يعتبره الناس انتصاراً مادياً على الموت، ليس سوى انتصار للموت عليهم وأن كل يوم يمرّ، وكل شهر وكل سنة، إنما يكرّس هذا الانتصار الفاجع ويقرّب الانسان من أجله المحتوم. وإذا بالعيد الصاخب يبدو وكأنه مأتم للمعيّدين، وإذا بأفراح العيد وكأنـها رقصة يائسة على شفير الهاوية.
إن الإنسان العاقل الواعي يرفض الدخول في حلبة الرقص هذه لأنه لا يريد الأوهام دافعاً لأعماله ولأنه يأبى أن ينخدع وأن يتعامى. إنه يبغي الحقّ على ما فيه من مرارة، ويفضّل مرارة الحقّ على لذّة الوهم والخيال. ولذلك فهو يتساءل جدّيّاً، بعد مواجهة الحقيقة العادية، إذا كان من مبرّر لإشتراكه في العيد.
الإنسان المؤمن وحده يعطي جواباً إيجابياً عن هذا السؤال. الإنسان المؤمن بزوال الموت وبالقيامة، المؤمن بأن الانتصار على الموت قد تمّ فعلاً وأن المعركة الدائرة بين الموت والحياة قد دخلت في مرحلتها الأخيرة لأن مصيرها قد تقرّر بقيامة المسيح. “أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا جحيم؟!” (اكو 15: 55). الإنسان المؤمن بقيامة المسيح له وحده اليقين بأن أضرّ وأقوى أعداء الإنسان سوف يُصرَع. ولذلك يسعه أن يواجه بفرح عظيم واطمئنان داخلي وسلام رأس السنة الجديدة. إنه لا يعيّد لهذا اليوم بمقدار ما يعيّد للقيامة.
الإنسان المؤمن يرى في العيد إشارة الى الانتصار الحقيقي النهائي على الموت. ولكنه يرى فيه أيضاً رمزاً وإشارة الى الحياة التي حصل عليها بفعل هذا الانتصار. “إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً” (2 كو 5: 17) بالحقيقة إن عيد رأس السنة يرمز إلى إمكانية هذا التجدّد. إن صفحة كاملة من حياتنا قد انطوت فيه، صفحة قد تكون مثقلة بالخطايا والآلام، حافلة بالإهمال والتواني. صفحة لا تُرضي الله في كل ما كتب فيها ولا ترضي الضمير. إن التعييد لسنة جديدة يرمز أن تلك الصفحة قد طويت نـهائياً، إلى أن “الأشياء القديمة قد مضت”، وأن صفحة جديدة من حياتنا هي الآن أمامنا، صفحة نقية عذراء لم تدنسها خطيئة بعد ولم تلطّخها ذنوب. صفحة بإمكاننا إذا شئنا أن نحافظ على نقاوتـها وأن نكتب فيها كل ما فيه مسرّة الله من شهادة للحقّ وعمل بالمحبة.
السنة الجديدة ترمز إذن إلى إمكانية تجديد النفس وتحريرها من أوزار الماضي وهي دعوة إلى هذا التجديد. هي عربون رحمة الله ومحبة الله. هي الإشارة إلى أن وقت التوبة لم يفت بعد. “هوذا يوم مقبول”، ما زال الله فيه مستعدّاً لأن يطوي صفحة آلامنا فلا يبقي لها أثراً في حياتنا. “اذهب مغفورة لك خطاياك”. فليتحدث غير المؤمنين عن وزر الماضي الذي يرزح تحته الإنسان. وليتكلّم الماديون عن عبودية الإنسان لعاداته المتأصّلة ولغرائزه الجامحة وبيئته الاجتماعية. إن للمسيحي الإيمان اليقين بفداء الله. إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيض كالثلج وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف “(اش 1: 18). فقد محوت ذنوبكم وكسحاب خطاياكم. ارجعوا إليّ فإني فديتكم”
فيا أخي المسيحي. إن كنتَ تودّ الاشتراك بفرح العام الجديد، إطوِ صفحة الجبن والعبودية في حياتك. انظر. إن صفحة جديدة هي أمامك. فلا تسمح بأن يدنّسها أحد. لا تسمح لنفسك بتدنيسها. وإذا ما شعرتَ بضعفكَ أمام الخطيئة، وإذا ما شعرتَ بقيود الماضي الثقيلة وبـهموم الحياة الكثيرة تستعبد إرادتك الخيّرة الصالحة، فاعلم أن هناك من حمل عنك تلك الخطايا وهذه الأوجاع، من تألّم عنك ليحرّرك من هذه القيود. القِ على منكبَيه حملَك الثقيل. إنه يدعوك إليه مع جمهور المتعبين والثقيلي الأحمال ليريحك من أثقالك. فلا تخف من قداسته ولا ترتعد أمام دينونته لأنه وديع ومتواضع القلب. هو ينضحك بدم أذكى من الزوفى فتطهر. يغسلك فتبيَضّ أكثر من الثلج. من يؤمن به لا ييأس من حياة أفضل، فهو ينبوع دائم للغفران والتجديد. من يؤمن به له وحده فرح العام الجديد لأنه وحده يعرف في المسيح “أن الأشياء القديمة قد مضت وأن الكل قد صار جديداً”.
مجلة النور ك2 وشباط 1953 ص 1- 4