الأرثوذكسيّة والتعدّدية الدينيّة (1)

ألبير لحام Wednesday August 7, 2002 293

*  الجزء الأول من المحاضرة التي أُلقيَت في معهد اللاهوتيّ البروتستانتيّ في جامعة جنيف

نعيش اليوم في عصر يتميّز ببلبلة كثيرة في أمور الدين. فعلمنة المجتمع قد أقصت الله إلى دائرة الضمير الفرديّ المقفلة. كما أنّ التفسير الحرّ والنقديّ للكتاب المقدّس قد أضعف فهم العديد من المسيحيّين سرّ الإيمان المعلن فيه وفتح المجال أمام انتشار الشيع. وقد أدّى اهتمام بعض اللاهوتيّين بالمساهمة في تحقيق مجتمع أكثر عدلاً وبأن تكون الكنيسة متجاوبة وتطلّعات الشعوب إلى الحريّة والعدالة والأخوّة، إلى التعبير عن المسيحيّة بلغة إنسانويّة لا دينيّة، وإلى ابتكار أنماط لاهوتيّة جديدة ولكنّها جزئيّة (لاهوت التحرير، اللاهوت النسائيّ، لاهوت العالم الثالث، اللاهوت الإفريقيّ، الآسيويّ أو البيئيّ) أخضعت تفسير الكتاب المقدّس وعقيدة الكنيسة إلى السعي لمرافقة تيّارات هذا العصر، ثـمّ إنّ الحركة المسكونيّة بدأت تميل إلى إضعاف الوعي العقائديّ لدى العديد من المؤمنين. كما أنّ التغيير الحاصل في توزيع الأديان في العالم، إضافةً إلى صحوة الإسلام والهندوسيّة والبوذيّة وتحوّلها إلى عوامل مؤثّرة في المجتمع الدوليّ وحتّى الأوروبّي، كلّها أمور تطرح على ضمير العديد من المسيحيّين، إلى أيّ طائفة انتموا، السؤال عن معنى إيمانـهم وقيمته بالنسبة إلى إيمان غير المسيحيّين، وعن معنى الأديان غير المسيحيّة وقيمتها في نظر المسيحيّة. السؤال المطروح هنا يتخطّى دراسة الأديان المقارنة على الرغم من أنّه يفترض معرفة دقيقة بالأديان، ودراسة جدّيّة لها وإنصاتًا صادقًا إليها، الشروط غير المتوافرة عند الكثيرين لسوء الحظّ. أضف إلى ذلك أن المسألة مطروحة في سياق التنبّؤات التشاؤميّة التي تقول بالمواجهة المحتومة بين الحضارات والأديان ولاسيّما تلك التي لا يزال تاريخها مطبوعاً بذكرى حروب شُنّت بإسم حصريّة مفرطة الحماسة أو غير متسامحة.

الحقّ إنّ لاهوت الأديان أو لاهوت التعددّية الدينيّة حديث نسبيًّا وما زال يتلمّس طريقه. وثـمّة، بين اللاهوتيّين البروتستانت والكاثوليك، من يقترحون “تنسيب” relativisation الكتاب المقدّس من حيث إنّه وحي، أو إقامة تمييز بين يسوع التاريخ، الإنسان الذي من الناصرة، ويسوع الإيمان الذي هو نتيجة خبرة حياة المسيحيّين الأوائل وتأمّلهم الروحيّ، بغية إفساح المجال أمام مسيحيّة تتمحور حول الله وملكوته وتشكّل أساسًا لقراءة معيّنة للأديان. من الواضح أنّ الأرثوذكس لا يسعهم قبول مقاربات مماثلة. ولكن بما أنّني لست عالماً لاهوتيًّا فإنّني لا أدّعي تقديم دراسة نقديّة لهذه التيّارات اللاهوتيّة المختلفة. فأنا لا أجد نفسي مؤهّلاً بما فيه الكفاية لكي أقدّم دراسة لاهوتيّة للمسألة في ضوء الإيمان الأرثوذكسيّ. لكنّني سأعرض، في القسم الأول من هذا البحث، أوجهًا معيّنة من العقيدة الأرثوذكسيّة قد تساعد على تكوين لاهوت مماثل. وفي القسم الثاني، سأقدّم لمحة عن المقاربة التي يتبنّاها بعض الآباء اللاهوتيّين المعاصرين حيال موضوع الديانات غير المسيحيّة. أخيرًا، سأتطرّق إلى قضيّة الأرثوذكسيّة وحوار الأديان.

  • بعض سمات الفكر اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ
  • تؤمن الأرثوذكسيّة بأنّ الكتاب المقدس هو التعبير الأسمى عن الوحي الإلهيّ الذي تتلقّاه وتعيشه الكنيسة في تقليدها الحيّ، بالروح القدس. وتُسمّى تحديدات المجامع المسكونيّة السبعة “بالحدود” وهي تعبّر، بكلمات تبدو متناقضة، عن أسرار الثالوث المقدّس وتجسّد الكلمة، وهي ركائز الإيمان المسيحيّ. يتقبّل المؤمنون هذه الأسرار ويحتفلون بـها في الليتورجيا والحياة الأسراريّة تعبيرًا عن اشتراكهم في الحياة الإلهيّة بالروح القدس في جسد المسيح.
  • بالنسبة إلى الأرثوذكسيّة، الخلق هو عمل حرّ لله – المحبّة، بواسطته يدعو الثالوث الأقدس الكائنات المخلوقة إلى الاشتراك في المجد الإلهيّ. فالكلمة “الذي هو حياة الناس ونورهم” (يو1: 4) يخلق العالم ويبقى في خليقته. ويقول فيه يوحنّا الإنجيليّ (يو1: 10) إنّه “كان في العالم”. الخلق، إذاً، هو تجلّ إلهيّ.”السموات تحدّث بمجد الله والـجَلَد يخبر بما صنعت يداه. النهار للنهار يعلن أمره والليل لليل يذيع خبره… إلى كلّ الأرض خرج نداؤهم وإلى أقاصي المسكونة كلامهم” (مز 18/19: 3-6). نلاحظ أنّ هذه الكلمات التي تشير إلى إعلان المجد الإلهيّ بواسطة الطبيعة تنطبق، في الرسالة إلى أهل رومية، على إعلان الإنجيل. فكتاب الطبيعة والكتاب المقدّس يشهدان للمحبّة غير المحدودة عينها.
  • الإنسان مخلوق “على صورة الله ومثاله”. يميّز اللاهوت الأرثوذكسيّ بين الصورة والمثال، كون المثال هو التطابق بين الصورة ونموذجها. بيد أنّ صورة الله غير المنظور (كو 1: 15) هي الابن. من هنا، كانت دعوة الإنسان، عبر شركته مع الله وطاعته، إلى أن يجذب الخليقة بأسرها، وهو ملكها وكاهنها، إلى هدفها ألا وهو الاتّحاد بالله في الابن “الذي به ومن أجله خُلق كلّ شيء” (يو 1: 3؛ كو 1: 16).
  • ترى الأرثوذكسيّة أنّ خطيئة الإنسان لا تدمّر فيه صورة الله، ولكن تشوّهها. فالإنسان يبقى شخصًا حرًّا ولكنّ حرّيته منحرفة؛ يبقى مخلوقًا عاقلاً ولكن تعتّم على فكره الأهواء. فهو يسود الخليقة ولكنّه معرّض أيضًا إلى الضياع فيها وعبادتـها. في الوقت ذاته، يبرّره ضميره المتردّد تارةً ويعود فيتّهمه طورًا. أمّا الموت فهو بالنسبة إليه “أجرة الخطيئة” ورحمة إلهيّة. فالموت يُدخل الفساد إلى الخليقة ومنذ ذلك الحين تروح الخليقة تنتظر بشوق أن تتحرّر من عبوديّة الفساد عبر حرّيّة أبناء الله ومجدهم (الغالبة- المنتصرة) (روم 8: 20-21).
  • لا تبيد خطيئة الإنسان قصد الله تجاه خليقته. “إنّ دعوة آدم الأوّل يتمّمها المسيح، آدم الثاني. فالله سيصير إنساناً لكي يستطيع الإنسان أن يصير إلهاً” (لوسكي، ص129). هذا هو تعليم آباء الكنيسة بالإجماع. “هذه هي حكمة الله السرّيّة التي ظلّت مكتومة مدى الأزل” (رو 16: 25)، تلك التي “أعدّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا”. “سرّ مشيئته، أي ذلك التدبير الذي ارتضى أن يعدّه في نفسه منذ القدم ليسير بالأزمنة إلى تمامها فيجمع تحت رأس واحد هو المسيح كلّ شيء ما في السموات وما في الأرض” (1كو:2، 7؛ أف 1: 9-10). هذا السرّ المحجوب عن الحكماء والمعلن في قلوب الأطفال الطاهرة يُعبَّر عنه بالتبنّي والتمجيد والتأليه (الاشتراك في الطبيعة الإلهيّة) والعرس واتّحاد الله بالإنسان وسكناه فيه، والتجلّي.
  • بعد السقوط، يدخل الله التاريخ البشريّ لكي يعدّ البشريّة والخليقة لمجيء ابنه بالجسد. إنّ تاريخ الخلاص هو تاريخ تحقيق الخطّة الإلهيّة في احترامها حرّيّة الإنسان؛ تاريخ افتقاد الله للبشريّة بأشكال متعدّدة ومتكرّرة على مرّ العصور والأجيال حتّى تتمّ إعادة جميع الأشياء إلى حالتها الأصليّة. تقول خدمة القدّاس الإلهيّ الأرثوذكسيّة للقدّيس باسيليوس الكبير، بعد أن يتمّ ذكر السقوط:

“فإنّك لم تعرض إلى الأبد عن جبلتك التي صنعتها أيّها الصالح، ولم تنسَ عمل يديك، بل افتقدته على أنواع كثيرة بأحشاء رحمتك. فأرسلت أنبياء، وصنعت المعجزات على أيدي قدّيسيك، الذين أرضوك جيلاً بعد جيل، وكلّمتنا بأفواه عبيدك الأنبياء، وسبقت فبشّرتنا بالخلاص الآتي. وأعطيتنا ناموسًا يعيننا، وأقمت ملائكة يحرسوننا، ولـمّا حان كمال الأزمنة كلّمتنا بابنكَ نفسه”.

يمكننا أن نقول مع فلاديمير لوسكي في “اللاهوت الصوفيّ لكنيسة الشرق” وبعدم دقّة نُعذر عليها، “إنّ الله يتنازل في عنايته الإلهيّة أمام حرّيّة البشر ويتصرّف نتيجة لهذه الحرّيّة وينسّق أعماله مع أعمال مخلوقاته لكي يحكم العالم الساقط وذلك من خلال تتميمه لإرادته من دون اعتماد العنف حيال حرّيّة المخلوقات (ص135)”. ويضيف لوسكي قائلاً: “الله ينزل إلى العالم بلا انقطاع: بأعمال عنايته وبتدبيره الذي يعني “بناء المنزل” أو “إدارة شؤونه”. ولـمّا حان ملء الزمان، اتّخذ كلمة الله، حكمة الآب الأقنوميّة، منزلاً (مسكنًا) له في جسد البشريّة. الكلمة “الذي فيه يحلّ الكمال كلّه”، تجسّد و”من ملئه نلنا جميعنا” (1 يو 1: 16) و(كو 1: 19 و2: 9).

  • أجل، لا يتحدّث الكتاب المقدّس في عهده القديم بشكل مباشر إلاّ عن تدخّل الله في مصير إسرائيل وحده، ولكن تتخلّله أيضًا دلالات على الافتقادات الإلهيّة للبشريّة في مراحل تاريخها قبل اصطفاء إبراهيم وبعده. فالرسالة إلى العبرانيّين تتحدّث، في الإصحاح الحادي عشر، العدد الرابع، عن هابيل الذي “بالإيمان قرّب لله ذبيحة أفضل… وبالإيمان شهد الله له أنّه من الأبرار”، وتتحدّث في العدد الخامس من الإصحاح عينه عن أخنوخ الذي “بالإيمان رفعه الله لئلاّ يرى الموت…وشُهد له بأنّ الله قد رضي عنه”، وفي العدد 7 من الإصحاح عينه يبرز لنا نوح كمن “بالإيمان حكم على العالم وصار وارثًا للبرّ الحاصل بالإيمان”. وأمّا الإصحاح السابع من الرسالة فيذكر ملكصادق الذي “هو على مثال ابن الله… ويبقى كاهناً أبد الدهور”. بعد الشريعة الموسويّة وفي نبوءة حزقيال (الإصحاح 14،العددان 14 و20) يعلن الله أنّه إن وُجد في الأرض الخاطئة هؤلاء الرجال الثلاثة، “نوح ودانيال وأيّوب، لكانوا ببرّهم ينقذون أنفسهم”. غير أنّ دانيال المذكور هنا هو من التراث الكنعانيّ وهو معروف في كتابات أوغاريت القديمة (الأثريّة)(1). وكذلك فإن أهل نينوى الوثنيّين آمنوا بالله “فرأى الله أعمالهم… فندم الله على السّرّ الذي قال إنّه يصنعه بـهم” (يونان 3، 5 و10). وفي زمن النّبي إيليّا، نجد أنّ أرملة صرفت من أعمال صيدا هي التي اختارتـها النعمة الإلهيّة دون الأرامل من اليهود وأنّ نعمان الوثنيّ هو الذي نال حظوة لدى الله في زمن أليشع (لو 4: 25-27). كما نلاحظ في سفر العدد يشير إلى نبوءة بلعام وهو من الأمم.

في وقت لاحق، يُدهش المسيح لشدّة إيمان قائد المئة الوثنيّ مع أنّه لم يُرسل إلاّ إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل” (متّى 15: 24) فيقول: “لم أجد مثل هذا الإيمان في أحد من إسرائيل” (متّى 8: 10). بالمقابل كان يتعجّب لعدم إيمان يهود الناصرة (مر 6: 6). يمدح يسوع إيمان المرأة الكنعانيّة (متّى 15: 28) والسامريّ الأبرص (لو 17: 18) ويستقبل المرضى والممسوسين والمقعَدين الذين كان يُؤتى بـهم إليه من أنحاء سورية ويشفيهم (متّى 4: 24) ويقدّم عمل السامريّ الصالح كمثال على محبّة القريب (لو 10: 25 و29). وهذا السامريّ الشفوق هو من يرى فيه آباء الكنيسة صورة المسيح الذي يأخذ على عاتقه الاعتناء بالإنسانيّة الممزّقة على دروب التاريخ.

أليس هذا تثبيتًا لما جاء في عظة بطرس في قيصريّة بحضور قرنيليوس الذي كان وثنيًّا ولكنّه رجل “تقيّ يخاف الله”: “أمّا أنا فقد بيّن الله لي أنّه ينبغي ألاّ أدعو أحدًا من الناس نجسًا أو دنسًا… أدركت حقًّا أنّ الله لا يراعي ظاهر الناس، فمن اتّقاه من أيّة أمّة كانت وعمِل البرّ كان عنده مرضيًّا” (أع 10: 28، 34-35). ويقول القدّيس بولس في الرسالة إلى أهل رومية “ليس عند الله محاباة” (2: 11) ويضيف (رو 2: 14) “فالوثنيّون الذين بلا شريعة ، إذا عملوا بحسب الطبيعة ما تأمر به الشريعة، كانوا شريعة لأنفسهم، هم الذين لا شريعة لهم، فيدلّون على أنّ ما تأمر به الشريعة من الأعمال مكتوب في قلوبـهم”.ويضيف القديس يوحنّا إلى هذا كلّه أنّ الكلمة هو النُّور الحقّ الذي “ينير كلّ إنسان آتيًا إلى العالم” وأنّه “كان في العالم” (يو 1: 9-10) وما زال يعمل في العالم (5: 17).

  • لكنّ الكلمة الآن تجسّد، هذا الذي بالناموس أو بدون ناموس هو “مرشد” الإنسانيّة، وفق تعبير إقليمنضس الإسكندريّ، لقد أتى بذاته ليُتمّم اتّحاد الله بالإنسان – هدف الخليقة الأصليّ. فبه صار للإنسانيّة دخول مباشر إلى الله. تقول الكنيسة المسيحيّة إنّ الكلمة اتّحد، في شخص يسوع الناصريّ، لا بشخص بشريّ بل بطبيعة بشريّة أو، كما يقول الآباء، بالطبيعة البشريّة. في الواقع، يجد آباء الكنيسة الذين تعتبر تفاسيرهم للكتاب المقدّس بمثابة امتداد له أنّ “القول بوجود أشخاص عدّة لهو إفراط بالكلام. بالطبع هناك كثرة تشترك في الطبيعة البشريّة ولكن عبر كلّ تلك الكثرة يبقى الإنسان واحدًا” (غريغوريوس النيصصيّ في “ليس هناك ثلاثة آلهة”)(2).

إنّ مفهوم الطبيعة البشريّة يعني تاليًا وحدة الكينونة بين جميع البشر، هذا الإنسان الفريد الذي حطّمه السقوط؛ ويمكننا القول “الحالة البشرية” التي لبسها المسيح.

في هذه الطبيعة الفريدة التي نشترك فيها معه، تألّم الكلمة ومات وقام ما جعل الرسول يقول بواقعيّة فائقة إنّ الله “أحيانا مع المسيح وأقامنا معه وأجلسنا معه في السموات في المسيح يسوع” (أف 2: 6).

ويقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ: “إنّ عمل واحدة من الحواسّ ينشر إحساسًا في الجسد كلّه المتّصل بـهذه الحاسّة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى البشريّة كلّها التي تشكّل، إذا صحّ التعبير، كائنًا حيًّا واحدًا: فقيامة أحد الأعضاء تمتدّ لتشمل المجموعة كلّها ومن الجزء تنتقل لتبلغ إلى الكلّ بفضل تماسك الطبيعة البشريّة ووحدتـها”(3).

لكنّ المسيح ليس مجرّد واحد من أعضاء البشريّة. إنّه رأسها (كو 1: 18). وإذ نزل إلى أسافل الأرض، “صعد إلى ما فوق السموات كلّها ليملأ كلّ شيء” “فأخذ أسرى وأعطى الناس العطايا” بالروح القدس الذي بثّه بيننا بغزارة (أف 4: 10). أوَلَم يقل: “جئتُ لألقيَ على الأرض نارًا وما أشدّ رغبتي أن تكون قد اشتعلت!” (لو 12: 49) وهي نار المحبّة التي يبثّها الروح القدس.

  • منذ تلك اللحظة، صار جسد المسيح – والكنيسة سرّ جسده – كامنًا في العجينة البشريّة كالخمير وكبذرة من نار وفاعلاً في التاريخ من الداخل، ومجتذبًا إيّاه كقطبه النهائيّ، وموصلاً البشـــريّة، لا بل الخليقة، إلى غايتها ألا وهي اكتمال كلّ الأشياء (récapitulation) في المسيح، في الملكوت الذي سيسلّمه إلى أبيه لكي يكون الله هو الكلّ في الكلّ (1 كو 15: 24-28).

إن التاريخ الذي قاده الكلمة في الزمن الأوّل إلى ظهور الإله – الإنسان بالروح القدس، يسير الآن في الزمن الثاني، بعد صعود المسيح – بالكلمة والروح، يدي الآب-، نحو تجلّ كامل لله في البشريّة بأسرها. لقد قلنا إنّ الكنيسة هي سرّ الملكوت الذي أتى منذ الآن ولكنّه لم يكتمل بعد؛ الكنيسة باكورة هذا الملكوت وهي تعلنه للأرض كلّها. إنّـها تحيا من هذا الملكوت وتشهد له وتستبق اكتماله في الإفخارستيا إذ تقدّم إلى الآب، في المسيح وبالروح القدس، الكون المخلوق والبشريّة بأسرها: “التي لك مـمّا لك نقدّمها لك على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء” (القدّاس الإلهيّ بحسب القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم والقدّيس باسيليوس).

 

  • آباء الكنيسة الأوّلون والتعدّديّة الدينيّة
  • في ضوء هذا الانتشار الكونيّ للخلاص رأى الآباء الأوّلون وحاولوا أن يفكّكوا رموز السرّ الخفيّ للتقاليد الدينيّة الأخرى. وكما يقول الرسول بولس للأريوباغي إنّـهم يميّزون في هذه التقاليد بين ما هو من الله “الذي فيه نحيا ونتحرّك ونوجد والذي نحن أيضًا من سلالته” (مستشهدًا بالفلاسفة الرواقيّين والأبيقوريّين) من جهة، وبين “ما يأتي من أزمنة الجهل وطول أناة الله” (أع 17).
  • في منتصف القرن الثاني، يتحدّث القدّيس يوستينوس الشهيد في دفاعيّاته عن “بذور الكلمة الإلهيّة المبثوثة في الإنسانيّة” وهي أصل كلّ ما هو جميل وحسن وعادل فيها.

“فالذين عاشوا بمقتضى الكلمة هم مسيحيّون، ولو كانوا وثنيّين مثل سقراط وأرسطو عند اليونانيّين وأمثالهم عند البرابرة (المقصود غير اليونانيّين) إبراهيم وإيليّا وغيرهم. الذين عاشوا ويعيشون بمقتضى الكلمة هم مسيحيّون.

كلّ إنسان يحتوي على بذرة من بذار اللوغوس في عقله، وهذه البذرة مبثوثة في الإنسانيّة بأسرها” (الدفاعيّة الأولى).

لكنّه يضيف مع ذلك “عقائدنا أنبل من كلّ العقائد لأنّنا حصلنا على الكلمة بالمسيح الذي ظهر لنا، جسدًا وكلمة وروحًا”.

كلّ الحقائق التي اكتشفها الفلاسفة والمشرّعون وعبّروا عنها يدينون بـها إلى ما وجدوه وتأمّلوه جزئيًا في “الكلمة”. فكلّ منهم رأى في الكلمة الإلهيّ المبثوث في العالم ما يمتّ بصلة إلى طبيعته واستطاع تاليًا أن يعبّر عن حقيقة جزئيّة… كلّ ما علّموه من الصلاح هو لنا نحن المسيحيّين… وقد استطاع هؤلاء المؤلّفون أن يميّزوا الحقّ بوضوح عبر بذار الكلمة الإلهيّة الكامنة فيهم. ولكنّ اقتناء بذرة وتاليًا مشابـهة متناسبة مع مقاييسها أمر مختلف عن حيازة الذي من نعمته هو تنبثق إمكانيّة المشاركة فيه والتمثّل به”.

يعتقد القدّيس يوستينوس أنّ بذار الكلمة الإلهيّة المبثوث في التاريخ والذي يكتمل بالمسيح تعترضه على الدوام قوّة الظلام التي تحوّل الإشارات إلى المسيح عبادات وثنيّة. ولكن اللقاء الإلهيّ – الإنسانيّ هو الذي ينتصر في نـهاية المطاف.

  • يتحدّث إقليمنضس الإسكندريّ من جهته أيضًا عن الكلمة (اللوغوس) كمصدر كلّ معرفة إلهيّة. يقول “إنّ الفلسفة قد أُعطيَت إلى اليونانيّين باللوغوس كعهد (أو ميثاق) خاصّ بـهم لأنّـها كانت لهم معبرًا يمكّنهم من التوصّل إلى “الفلسفة بحسب المسيح” (8، VI). ويقول إنّ الله فوق كلّ فسلفة، “يعتني بجميع البشر ويهديهم إلى الخلاص، بعضهم بالوصايا، البعض الآخر بالتهديدات، والبعض بالآيات المعجزة، والبعض الآخر بالوعود الحسنة” (3، 2، 3، Str. VI) ذلك أنّ “عمل الله الملوكيّ الأسمى هو خلاص البشريّة” (Pé-d. 1, 12).

تالياً، اللوغوس هو المرشد الذي منذ سقوط الإنسان لا يكفّ عن تـهيئة البشريّة لكي تصبح خليقة جديدة عبر تجسّده:

“للبعض أعطى الوصايا وللبعض الآخر الفلسفة… حتّى إنّ الله، بعمليّتين من التقدّم مختلفتين، يرشد اليونانيّين والبرابرة (والمقصود اليهود) إلى بلوغ الكمال الذي يُدنى إليه بالإيمان” (2، Str. VII).

ويحدّد إقليمنضس ما يعنيه بالفلسفة على النحو الآتي: “لا أقصد بالفلسفة فلسفة أفلاطون أو أبيقور أو أرسطو؛ بل كلّ الأمور الجيّدة التي قالت بـها هذه المدارس، والعدل والرفق والتقوى التي علّمتها؛ هذا ما أسمّيه الفلسفة” (7، Str. I).

هكذا يذكر إقليمنضس، إلى جانب الفلاسفة اليونانيّين، “حكماء الهند كالبرهمان وحتّى بوذا نفسه الذي يجلّه البرهمان لقداسته الفائقة كإله” (15، Str. I)، ما يمكن اعتباره اعترافًا بوجود جزء من الحقيقة المسيحيّة في التقاليد الدينيّة الهندوسيّة والبوذيّة.

ويجد إقليمنضس أنّ الآية الأولى من الإصحاح الأوّل من الرسالة إلى العبرانيّين تشير إلى التدابير العديدة التي عبرها يعلن الكلمة، وفق تقدّم البشريّة ونموّها، تجسّده منذ خلق العالم ويمهّد له:

“إنّ ابن الله الوحيد، سيّد جميع المخلوقات… صنع البشر من الأعالي ومنذ بدء العالم وهو يرشدهم إلى كمالهم بطرائق متعدّدة ومرّات عدّة” (7 Str. VI).

“طريق الحقّ واحدة ولكنّها مثل نـهر لا ينضب تصبّ فيه مجاري المياه الآتية من كلّ مكان” (5، Str. I).

ومن هذا المنطلق يهتمّ إقليمنضس لخلاص اليهود والوثنيّين الذين ماتوا قبل أن يعرفوا المسيح. ويذكّر في هذا الصدد بنزول المسيح إلى الجحيم كما يرد في 1بط 3، 19 و4، 6  “ذهب الربّ يعلن ذاته للأرواح السجينة التي لم تطع الله في ما مضى” و”البشارة السارّة أُعلنت حتّى للموتى لكي إذا ما أُدينوا بالجسد بحسب شريعة البشر، يحيوا في الروح القدس بحسب الله”.

في هذا الخصوص، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تذكر انحدار المسيح المحرّر إلى مسكن الأموات في خدمة الجنّاز، كما أنّـها ترى، في خدمة عيد القدّيس يوحنّا المعمدان أنّ هذا الأخير بشّر بالتجسّد الذين هم في الجحيم.

  • يقدّم القديس إيريناوس، من جهته، لاهوتًا حقيقيًّا لتاريخ الخلاص: الله الآب أعلن عن ذاته منذ البدء عبر الإبن بواسطة سلسلة من التدابير أشبه بنغم متناسق، في العجين الإنسانيّ الذي يمنحه هو الشكل والقالب، “منذ البدء، يعلن الإبن، الذي هو مدبّر للعمل وموجود فيه بآن واحد، الآب لكلّ الذين يريد الآب أن يعلن لهم نفسه، في الوقت الذي يريده الآب، وعلى النحو الذي يريد”(7، 6: Have. IV).

“تالياً، صار الابن هو موزّع نِعَم الآب لما فيه خير البشر الذين من أجلهم أتـمّ تدابير هامّة للغاية، وهو إذ يُظهر الله غير المنظور للناس، لا يظهره بشكل يتيح لهم رؤيته رؤية مباشرة وذلك لئلاّ يصل الإنسان إلى احتقار الله وليكون دومًا أمامه هدف يحثّه على التقدّم. غير أنّه في الوقت ذاته يجعل الآب منظوراً من قبل البشر “بتدابير” عديدة، خوفاً من أن يضيّع الإنسان وجوده إن هو حُرم من الله بشكل تامّ. لأنّ مجد الله هو الإنسان الحيّ. وإذا كان إعلان الله لذاته عبر الخلق يمنح الحياة لجميع المخلوقات التي تعيش على الأرض، فكم بالحريّ يمنح ظهور الآب بواسطة الإبن الحياة للّذين يعاينون الله” (7-6، 20، 7، 6، Ad. Have. IV).

من هنا، نجد أنّ “ثمّة إلهًا في تدابير متنوّعة يسارع إلى معونة البشر”. ويرى القدّيس إيريناوس أن تأخّر التجسّد مردّه إلى ضرورة اعتياد الله السكنى في الإنسان وضرورة اعتياد الإنسان استقبال الله.

“لم يأتِ المسيح من أجل الذين آمنوا به في أيّام طيباريوس قيصر فحسب، والآب لم يسهر بعنايته على أناس اليوم فحسب، بل على جميع الناس من دون استثناء الذين منذ البدء وبحسب قدرتـهم وفي وسط جيلهم عبدوا الله وأحبّوه وتصرّفوا بعدل ومحبّة تجاه قريبهم” (2، 22، Ad. Have. IV).

ويقول، مستعيداً فكرة نزول المسيح إلى الجحيم: “لهذا نزل المسيح إلى الأماكن السفليّة (أف 4: 9) لكي يحمل إلى الأموات جميعًا خبر مجيئه السارّ، وهو مغفرة الخطايا للذين يؤمنون به” (المرجع السابق 27، 2).

ويستبق القدّيس إيريناوس الردّ على السؤال التالي “إذا كان الأمر كذلك فماذا قدّم التجسّد للبشرية؟”. يقول: “اعلموا أنّ الله قدّم كلّ جدّة بتقديمه شخصه المعلن مسبقًا. فإذا كان مجيء الملك يُعلَن عنه من قبل الخدّام الذين يُرسَلون لتحضير من عليهم استقباله، إلاّ أنّه عندما يصل الملك ويحظى أتباعه برؤيته ويسمعون كلامه ويتنعّمون بعطاياه وينالون منه الحرّيّة، فعندها لا يطرح السؤال حول ما إذا  كان الملك قد أحضر معه شيئًا جديدًا يضيفه على ما قاله الذين أنبأوا بمجيئه” (المرجع السابق 34، VI).

  • سألقي هنا نظرة سريعة على تعاليم أوريجانس، معلّم الكنيسة الكبير. فهو، مع أنّه أشدّ نقدًا من يوستينس وإقليمنضس وإيريناوس حيال الفلسفة، يقبل بأنّ أفضل ما في عقيدة الفلاسفة يمكنه أن يكون بمثابة مادّة تحضيريّة مفيدة لشرح العقيدة المسيحيّة. وكان أوريجانس يتبيّن، في حكمة الأمم الوثنيّة، وجود “بذار الكلمة الإلهيّ”.

ولكنّ أوريجانس هو صاحب الفرضيّة القائلة بأنّ جميع البشر، حتّى الملائكة الساقطين، سيخلصون ويعودون إلى حالتهم الأصليّة بعد مرورهم في حالات روحيّة عديدة.

رفضت الكنيسة هذه الفرضيّة في القرن الخامس، ولكنّها ما زالت في العديد من صلوات الآباء الروحيّين، تعبيرًا عن الرجاء والثقة في محبّة الثالوث غير المحدودة لكل المخلوقات.

يقول القدّيس يوحنّا السلّميّ: “أن يصل الكلّ إلى التجرّد التامّ فهذا أمر مستحيل؛ أمّا أن يخلص الجميع ويُبرّروا فهذا ليس بمستحيل”.

وهكذا، في كتاب “رحلاتي التبشيريّة في سيبيريا” الصادر العام 1971، يروي الأرشمندريت إسبيريدون كلامًا قاله فلاّح سيبيريّ يسمّيه “الرجل القدّيس سمعان” مفاده:

“الآلام لا تخيفني، ما يخيفني هو أن يحجب الله نعمته عن الخاطئين”.

“أصلّي إلى الله ليس من أجل المسيحيّين فقط ولكن أيضًا من أجل الذين لم يتعمّدوا ومن أجل الذين شُنقوا وانتحروا”.

“أشفق على جميع الموتى وأشفق حتّى على الشيطان. أهذا جيّدا أم لا، لست أعلم؛ ولكنّ قلبي هو كذلك”.

يلتقي هذا الفلاّح السيبيريّ، في صلاته، مع قول رائع للقدّيس إسحق السوريّ هو: “القلب المحبّ هو القلب الذي يشتعل بمحبّة الخليقة بأسرها، بمحبّة البشر والحيوانات والشياطين وجميع المخلوقات…”.

من جهة أخرى، تذكر حكم آباء الصحراء أنّ أحد الشيوخ قال لجنديّ قد طرح عليه سؤالاً: “إذا كان معطفك ممزّقًا، فهل ترميه؟”. وعندما أجابه الجندي: “لا، بل أصلحه وأرتديه”. قال له الشيخ: “إذا كنت أنت تعتني بمعطفك، أفلن يكون الله رحيمًا تجاه من هم على صورته؟” (أ.كليمان، sources ص، 367).

تعريب كاترين سرور

  • La Bible, Trade et notes Osty et Trinquet.
  • G. 45, 117.
  • Grande Catéchèse, 32 P.6.45.80.

 

مجلة النور آب 2002، ص 400- 407.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share