نتأمّل اليوم في سرّ “الغطاس” القادم علينا. دُفن يسوع في المياه، ودَفن بذلك شهواتِنا جميعًا، وعلّمَنا منذ ذلك الوقت أنّنا مدعوّون إلى أن نقوم معه وأن نشاركه فرحَهُ وسلامَهُ. ولمّا صعِد من الماء فُتِحَت السّمواتُ وسَمع صوتَ الآب ورأى الروحَ القُدسَ مجسّمًا.
الذي ينهض من ماء المعموديّة يُعطى أن يَرى السّموات مفتوحة ويسمع صوت الآب. هذا الّذي يخلع نِيْرَ الخطيئة عن نفسه إذ يُدفن في الماء، تلتفت إليه السّماء ويستقرّ عليه الرّوحُ القُدسُ. ولذلك كانت أوّل كلمة نطق بها السيّد لمّا باشر بالتّعليم: “توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات”. توبوا أي حوِّلوا وجوهَكُم إلى وجه الله، غيّروا أذهانَكُم، صحِّحوا عقولَكُم، نقِّحوا كلماتٍ كنتم تقولونها وكانت تأتيكم من شهواتِكم. خارج المسيح شهواتُكُم توشوِشُ في صدوركم وتظهر على ألسنتكم. ولكن إن ثبتّم في المسيح بالمعموديّة تتحوّلون إليه تحوّلاً جذريًّا كاملاً ساطعًا، ولا تنطقون عن غرض ولا عن منفعة دنيويّة ولا عن خوف، ولكنّكم تتكلّمون بكلمات الله، وتُعرف إرادة الله اذا تكلّمتم. إن استنرنا بنور الظّهور الإلهيّ، بنور الله الظّاهر في حياتِنا وقلوبِنا، عند ذاك نكون تائبين ونصبح إلهيّين.
“توبوا فقد اقترب ملكوتُ السّماوات” أي أنّ الله معنا، مملكته فينا، ملكوت الله في داخلنا. الله جعلنا في جواره منذ أن جاء إلى أرضنا وباركَها وحلّ فيها. السّماوات نزلتْ علينا، انحدرتْ الينا منذ جاء اللهُ وجلس في ما بيننا. لذلك نحن في فرح مُقيم وفي سلامٍ دائم.
إنْ كنّا حقًّا في المسيح يسوع، نعرف يقينًا أن الله أعظم من قلوبنا وأقوى، وانّه هو الذي يملأنا قوّةً وفرحًا وحبًّا. عندما نُدرك أننا قادرون أن نغتذي من الله وأن نحيا به، عندما نعرف أنّه منعشنا وأنّه يلاطفنا وأنّه يكفينا، فعندئذ لا علاقة لنا بالخطيئة، نتركها كما يَترك الانسانُ قطعة بالية من الثّياب. نرمي الخطيئة عن أنفسنا كما يُرمَى شيءٌ وسخ، ونرتمي في أحضان المسيح مستلذّين وجهَه ومرتضين مُعاشرتَه كما ارتضى هو أن يعاشرنا لمّا جاء إلى الأرض وسكن في ما بيننا وأَحبّنا حتى الموت، موت الصليب. هذه هي التّوبة: أن نتبيَّنَ جَمالَ المسيح وقباحةَ خطايانا.
من عرف مَحبَّة الله له واكتفى بالله لن يَقتُل في ما بعد ولن يَسرق ولن يرتكب قباحة، ولكنّه يريد أن يكون لطيفًا بالنّاس كما أن الله لطيفٌ بنا. هذا يحبّ النّاس ويجعلهم بذلك أقرباء لربِّهم، ولهذا كرَّرَ يسوعُ دعوته إلينا أن توبوا، عودوا إليَّ كما جئتُ أنا إليكم وكما أَطللتُ عليكم. هكذا أنتم اذا أطلّت قلوبُكم عليَّ فإنّنا نلتقي في المَحبَّة.
نبقى مقيمين على هذا العهد، عهد التّوبة وعهد السّلام مع الله والنّاس.
3/1/2016