صدر عن” تعاونيّة النّور للنّشر والتّوزيع” كتيّب عنوانه “لماذا أتلهّف كمسيحيّ إلى ولادة لبنان الجديد”، وهو عبارة عن محاضرة ألقاها الدّكتور كوستي بندلي إبّان الحرب الأهليّة، إلا أنّ صفحاته لا تزال تحاكي واقع اليوم، وإن اختلفت الظّروف والتّواريخ.
وقد جاء في مقدّمته الّتي خطّها الأخ رينه أنطون:
كانت الحرب، وكان هناك تلاميذ. كانت ساحات الوطن وشرفاته الإعلاميّة مُشرَّعةً لكلّ من يتآكله الحقد ويقول بالثّأر وتحصيل الحقوق والحفاظ على المكاسب عبر العنف والمجازر واستباحة الآخر. ووسط هذا المشهد كانت المصالح والقضايا الكُبرى تلعب سعيًا إلى تحقيق كثرة من الأهداف عبر التسلّل من فجوات الوطن، الطّائفيّة، الواسعة. أمّا التّلاميذ فبقوا في حبّهم.
إجتاحَهم الألم وشغلَهم… من رحم هذا الألم، وحيرة هذه التّساؤلات، أطلّ كوستي بندلي بوهج القائد المختلف عن قادة ذلك الزّمن، المحاور للصّوت المنفلش من فوهة المدافع بالكلمة والنبرة. أطلّ بهموم ٍثلاث. أولّها ألّا يتسرّب الحقد المنتشر إلى داخل البيت المجاور للكنيسة، الّذي يحضن قضيةَ يسوع، لئلاّ تحلّ الطّائفةُ، ومصالحها، في حركة الشّبيبة الأرثوذكسية بدلاً عن الجماعة. همَّه، ثانيًا، أن ينخرط الكنسيّون، بما فيهم الحركيين، في مسيرة إبطال البُعد الطائفيّ للحرب ومنع ترسيخه عبر مبادرات وحضور مجتمعيّ خادم لا تحدّه حدود طائفتهم. وهمَّه، ثالثًا، أن يولد الوطن من معموديّة الدّم جسدًا جديدًا معافى من الأوبئة الّتي قادته إلى مآسٍ متكرّرة والتي منها الوباء الطّائفي، أن يولدَ هيكلاً مُحصَّنًا بعدالةٍ تناصر المهمَّشين وانصهارٍ يرتقي بشعبه إلى أن يكون حرّاً في إيمانه، الإيمان الذي يخدم الربَّ والآخر، في الوطن، وليس ذلك الّذي يسخّر الله لنُصرة هذا أو ذاك في مسعاه إلى قضم الوطن والآخر.
آلم كوستي بندلي، ذلك اليوم، أن يجعل الكلّ من الربّ خادماً له، وخصوصاً أن يُصارَ بالصّليب، رمز الفداء، سلاحُ صراعٍ وحربةٌ في جسدٍ مظلوم. هو ربّه “الذي أحبّه أولاً”، وأحبّه حتى الموت، فكيفَ لا يختنق بالشّهادة للحقيقة الإيمانية التي كُشفت له، لحقيقة سيّده غاسل الأرجل، إن لم يصرخَ بها. فبات لا يهمّه أين يصرخ وكيف، قدر ما يهمّه ضرورة الصّراخ، فأتت صرخته بهذا العنوان.
“لماذا أتلهفّ كمسيحيّ الى ولادة لبنان الجديد” يُقرأ في هذا السّياق، كصلاة من تلميذٍ اشتاق إلى معلّمه في الأرض وخافَ، بسبب تصاعد البشاعة فيها، أن يغرب فاديه عنها إلى الأبد.
ويبقى لماذا هذه الصّلاة اليوم، لأن فجوات الوطن، الطائفية والمذهبيّة، تتسّع ولا تضيق؛ لأنّ شمسَ العدالة لا تُشرق عليه؛ لأن الحربَ، وإن دون سلاح، ما زالت قائمة؛ لأن كثرةً من شعبنا تتألّم؛ لأنّ في بلادنا ما ينادينا، كمؤمنين، ولا نستجيب؛ لأنّ الحاجة، وسط هذا كلّه، تشتدّ الى صوتٍ خارجٍ عن المألوف، يصرخ بما هو غريبٌ عمّا نسمع، ينشدّ إلى الخلاص الآتي من فوق وهو شاخصٌ إلى المهمَّشين هنا.
لماذا؟ لنعمّد الوطن بالكلمة الشّافي الكلّ، كي لا يعمّده المتصارعون، مجدّدًا، بالدّماء.
ونقتطف من كلام الدكتور كوستي بندلي المقطع التالي: “من موقع الإيمان هذا، سوف أنطلق لأبيّن لماذا أتلهّف إلى ولادة لبنان الجديد الذي تتوق أبصار وقلوب الكثيرين ممّن بقي عندهم رجاء بالإنسان وأمل بالمستقبل أن تراه بازغًا ببهاء فوق كلّ تلك الأنقاض المتراكمة. وقد يبدو غريبًا أن أتكلّم عن لبنان الجديد من منطلق الإيمان. أليس الإيمان بنظر الكثيرين، من أتباعه أولاً، محصورًا في ميدان ما يُسمى “بالماورائيّات”، لا يُقيم وزنًا للدّنيا لأنّه متّجه بكلّيته إلى الآخرة، ولا يبالي كثيرًا بأحوال الإنسان في الأرض لأنّه مأخوذ بهاجس مصيره الأبديّ؟ ولكنّني أقول صراحة بأنّ هذا النمط من “الإيمان”، وإن سرت عدواه، ويا للأسف، في المسيحيّة التّاريخية، ولا تزال، ليس هو من الإيمان المسيحيّ الإنجيليّ بشيء، إنّما هو تزييف فاضح له لأنّه إنكار عمليّ للحقيقة الإيمانيّة المحوريّة في المسيحيّة، حقيقة التجسّد.
تصميم الغلاف برلا كشّوتي