حين يتنفّس الله فينا

روي مجاعص Saturday November 22, 2025 379

مساهمة روي مجاعص في مسابقة «أقرب الى فكر كوستي بندلي».
مشاركتنا اليوم مع الأخ روي مجاعص من برمانا، لبنان.
نشكر الأخ روي الذي قدّم نصًّا إبداعيًّا بعنوان: “حين يتنفّس الله فينا”
من وحي تعاليم كوستي بندلي في سبيل تخطّي الشعور الطائفيّ، وندعوكم للاطلاع على المساهمة الكاملة أدناه

تابعونا يوميًا لاكتشاف بقية المساهمات التي سننشرها تباعًا.

كنتُ صغيرًا عندما سمعتُ جدّي يهمس وهو يقلب محطّات المذياع في تلك اللّيلة التي اشتعل فيها الشّارع: “كلّهم أولاد الله، لكن يبدو أنّهم نسوا ذلك”.لم أفهم يومها ما يعنيه. كنتُ أرى في التّلفاز بيوتًا تُحرق وأناسًا يركضون، وكلّ فريق يحمل اسم الله على رايتِه. كنت أظنّ أنّ الله معهم جميعًا، لكن كلّ واحد كان يصرخ: “الله معنا وحدنا.”
كبرتُ، وكبر في داخلي السّؤال: كيف يمكن للإله الواحد أن يُستَخدم كسلاحٍ يفرّق أبناءه؟حين قرأتُ لكوستي بندلي للمرة الأولى، شعرتُ كأنّه يردّ على ذلك السّؤال الذي كان يخنق طفولتي.لم يكن يتكلّم من برجٍٍٍِلاهوتيّ، بل من قلبٍ يعرف وجع النّاس، يعرف ضيق الجماعات التي تحتمي بخوفها من الآخر.قال لي، دون أن يعرفني: “إنّ الإيمان ليس حصناً نتحصّن به ضدّ الآخرين، بل بابًا نُفتح من خلاله على الجميع.”
يقول بندلي إن الوثنية لم تمت بعد، وإننا حين نختصر الله في فئتنا، نعيد إحياءها بأسماء جديدة.كم صدق في ذلك! نحن لا نعبد الأصنام الحجرية اليوم، بل نصنع أصنامًا من الهويّات، من الطوائف، من الرايات، من ال “نحن” التي تتضخّم حتى تبتلع الله نفسه.لكن الله، كما يذكّرنا، ليس حكرًا على أحد. هو إله الكلّ، وأب الكلّ، يحبّ حتى الذين يجهلونه أو يعادونه.أن أؤمن بهذا، لا يعني أن أقول جملة جميلة في الكنيسة، بل أن أعيشها في قلبي حين أرى وجهًا مختلفًا عني،وأتذكّر أن الله يحبّه كما يحبّني تمامًا.ذلك الإيمان لا يُقاس بعدد الصلوات، بل بمقدار المسافة التي أقطعها نحو الآخر دون خوف.فحين أجرؤ أن أقترب، أن أرى الله في المختلف، أن ألمس يده لا لأحكم عليه بل لأتعلّم منه، هناك فقط يبدأ التحرّر من الوثنية الجديدة.
قال يسوع لتلاميذه: “لا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة.” كوستي بندلي جعلني أفهم أن الطائفية ليست فقط كراهية، بل خوف متخفٍّ بثياب الكرامة.نخاف أن نُمحى، فنغلق الأبواب، نرفع الشعارات، نحتمي بالعدد، وبالذاكرة، وبالرموز.لكن حين أعرف أنني محبوب من الله، كما أنا، بكل ضعفي وهشاشتي، عندها فقط أتحرّر من الخوف.وحين يتحرّر القلب من الخوف، يصبح قادرًا على الحبّ، والحبّ بدوره يفتح العيون، والعيون المفتوحة لا ترى طوائف، بل وجوهًا.ذلك هو الإيمان الذي لا يُختبر من أمام الباب الملوكي، بل في الأزقّة، في المدرسة، في المستشفى، حين أختار أن أُحبّ من ليس من طائفتي، وأخدمه كأني أخدم الله نفسه.
في لبنان، السياسة تُفصَل عن الإيمان وكأنّها دنس.لكن بندلي رآها امتدادًا للإيمان، أداة لبناء وطنٍ يتّسع للجميع، لا قلعة لطائفة واحدة.هو الذي تجرّأ أن يقول أنّ الخلاص لن يأتي من هيكليات تكرّس الخوف، بل من جرأة بناء وطن علمانيّ يحرّر الإيمان من سجون الطوائف.هذا لا يعني إلغاء الإيمان، بل تحريره من التوظيف.فالإله الذي يُستَعمل لحماية مصالحنا، لم يعد إلهًا، بل شعارًا حزبيًا.والإيمان الذي لا يُحرّك ضميرنا نحو العدالة لكلّ الناس، يصبح ترفًا روحيًا فارغًا.
ربما آن الأوان أن نصغي جيّدًا، أن نحلم بوطنٍ حيث لا تُسأل عن طائفتك لتنال حقّك، ولا تخاف لأنك من جماعة أخرى، بل تُقاس بإنسانيتك فقط.ذلك هو التحدّي الذي تركه بندلي لنا نحن الشباب، أن نكسر القالب ونصنع لغة جديدة لله، لغة تجمع بدل أن تفرّق.
أحَبَّ كوستي بندلي أن يتأمّل في مثل الخميرة التي تخمّر العجين كلّه. كان يرى في المسيحيين، وفي كلّ مؤمن حقيقي، خميرة صغيرة، لا تملك القوة ولا العدد، لكنها تغيّر من الداخل.ليست دعوتنا أن نصير أكثرية، بل أن نصير خميرة حقيقية.أن نكون في العجين، مندمجين في المجتمع، نحبه، نخدمه، نمنحه الطعم والرائحة دون أن نفقد حقيقتنا.الخميرة لا تتفاخر، لا تصرخ، لا تتظاهر، تعمل بصمت، لكنها تغيّر كلّ شيء.
كم نحتاج اليوم إلى هذا الصمت الفعّال، وسط صخب الطوائف والسياسة. كم نحتاج أن نؤمن أن فعل الحبّ الصغير في زاوية منسية، قد يكون أكثر ثورية من ألف خطاب طائفيّ.ربما أجمل ما في فكر بندلي أنه جعل من الحبّ واقعًا ملموسًا، لا فكرة مجرّدة.تحدّث عن المدارس التي تفتح أبوابها للجميع، عن المراكز التي تخدم الناس دون السؤال عن انتمائهم، عن اللقاءات التي تصنع صداقة حقيقية بين المختلفين.لقد فهم أن الشهادة الحقيقية ضدّ الطائفية لا تُقال في المؤتمرات، بل تُعاش في العلاقات اليومية.في النظرة، فيالمصافحة، في الصمت الذي يختار ألا يُهين ويجرح، في الكلمة التي تُعيد بناء الثقة.هكذا فقط، تُشفى الذاكرة اللبنانية من انقساماتها.الطائفية لا تنهار بخطاب سياسي، بل حين يُصبح جاري من طائفة أخرى، أخي.
كلّما أغلقتُ كتابًا لكوستي بندلي، أشعر أنّ الله ما زال يتنفّس فينا.أننا لم نُخلق لنحيا في طوائف، بل في محبّةٍ تجعلنا أوسع من انتماءاتنا. إنّ الله لا يريد مؤمنين يتباهون بإيمانهم، بل بشراً يتذكّرون أنهم خُلقوا على صورته، صورة حبٍّ لا يتجزّأ.ربّما تخطّي الشعور الطائفيّ لا يبدأ بإلغاء الطائفة، بل بإعادة اكتشاف وجه الله فيها، وجه الله الذي يطلّ علينا من الآخر.حين نصل إلى تلك اللحظة، لحظة أن ننظر في عيون المختلف فنرى الله نفسه، نكون قد تحرّرنا حقًا من الطائفية،وصِرنا أبناء ملكوت الله على الأرض.
في النهاية،ربما لا يريد الله منّا أن نبني كنائس جديدة،بل أن نصير نحن الكنيسة،حيث يسكن الجميع، دونخوف، دون انتماءٍ ضيّق،بل في انتماءٍ واحد إلى محبّةٍ لا تزول.

لتنزيل الملف : مسابقة ثقافية روي مجاعص

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share