مساهمة ميرابل جرجيفي مسابقة «أقرب الى فكر كوستي بندلي».
مشاركتنا اليوم مع الأخت ميرابل جرجي من اللاذقيّة، سوريا.
نشكر الأخت ميرابل التي قدّمت نصًّا إبداعيًّا بعنوان: “الله الغائب الحاضر في الضيقات“
مستوحى من مقال كوستي بندلي بعنوان: “كيف يتفق وجود المصائب مع قدرة الله وصلاحه؟”، وندعوكم للاطلاع على المساهمة الكاملة أدناه
تابعونا يوميًا لاكتشاف بقية المساهمات التي سننشرها تباعًا.
تحطّمت أسوار أوراشاليم، وتحطّمت معها عهود الإيمان .
سُبيت يهوذا، وسُبي معها حنوّ الرب ووعوده .
الإنسان، منذ خُلق، يجابه صنوفًا من الألغاز وخفاياها، غير مدرك لماهيتها.
عجزه الفكري وضآلة حجمه الكوني جعلاه أنموذجًا للضعف، رغم تفوقه الغريزي والإيماني.
فالحياة لم تسلَم من الشرور، بل تآصلت فيها حتى زخرفت سويعات حياتنا بالألم والمعاناة، وأدخلتنا في قنوط دائم وعتبٍ صرفٍ على الله القابع في داخلنا.
وغدا سؤالٌ واحدٌ، كعمود رخام روماني يحمل قبّة عقولنا:
لماذا لا ينقذنا الربّ من الشرور؟
توهمنا، لكثرة مراحم الرب، أن عيوننا لن تبصر غير أزاهير الحياة، غير مدركين أنّ الضفة الأخرى من نهر الأيام قد أورقت فيها الحنظل والعوسج المر.
وسط صخب الحياة المجبولة بالشرّ والألم والمعاناة، تاهت بوصلة السماء، وتاهت معها صورة الله الغائب.
لهذا تزاحمت عقولنا بوجدانيات فكرية متنوعة، ألبست رحمة الله ثوب الظلم تارة، وثوب العجز تارة أخرى.
وهنا انقطع شريان الفهم الإيماني، فبدأ الإنسان يتوارى شيئًا فشيئًا عن عيني السماء.
لعلّ من أهم قضايا الإنسان، القديم والجديد (المعاصر)، التي تؤرق إيمانه وترميه في أحضان الإلحاد، هي قضية غياب الله في الضيقات.
في حقيقة الأمر، هناك وجهان متلازمان لهذه القضية الفكرية الشائكة والصعبة , رؤية الكنيسة الشمولية ومبرّراتها اللاهوتية، ورؤية علم النفس المعاصر المنبثق من متاهات فكرية كالإلحاد واللادينية.
إذا ما توقف المرء أمام ذاته وناقش بسوية فكرية غياب الله وسط الآلام والصعاب والكوارث الإنسانية، قد يفضي به الأمر إلى عدم وجود الله ، وهو الخالق الوحيد للحياة وما فيها، دون الغوص في ما وراءيات الكون.
لكن بعد تنهيدة متأصلة نابعة من فطرته الإيمانية، يلبس عقله المنطق الوجودي المحتم لله، وصونه المطلق لكل تفاصيل حياتنا بحكمة إلهية غائبة عن عقولنا صغيرة الإدراك.
ترى الكنيسة الأرثوذكسية أنّ غياب الربّ في ضيقات العالم يدخل في صنوف مختلفة من المقاصد الإلهية، وبحكم الطبيعة الإلهية والبشرية والكونية، تدخل هذه القضية الشائكة في جدلية أقرب ما تكون للعبثية.
لهذا، ومن باب تبسيط التعاطي، سنكون أمام تقسيم الآلام البشرية إلى أقسامها الحقيقية ورؤية الكنيسة لها.
الكوارث الأرضية :
(بصنوفها المختلفة من براكين وزلازل وأعاصير)
أنشأ الله نظامًا كونيًا خاصًا يضبط الكون وفق قوانين فيزيائية وكيميائية صرفة.
فإذا حدث زلزال، فهذا بالتأكيد ناتج عن طبيعة كوكب الأرض، فالأرض ليست كتلة صلبة واحدة، بل مجموعة من الصفائح الهائلة التي تطفو فوق طبقة لزجة من الصخور الساخنة المتحركة.
طبيعة الخلق هذه لن يغيرها الرب لمجرد أن نطلب منه ذلك.
لهذا ، الله ليس شريرًا إذا ما حدث زلزال أو إعصار، بل هو مملوء بالخير والمحبة، إذ صنع لنا الأرض لنحيا عليها.
وليس بمقدور أحد مهما علا فهمه أن يتهم الله بالشر لمجرد أن الأرض تعمل وفق قوانينها الضابطة لوجودها.
يقول القديس اسحق السرياني :
إن الله لا يصنع الشرور، ولا يرسل الكوارث.
لكنه يترك الطبيعة تعمل بحسب قوانينها، كي يتعلّم الإنسان تواضع القلب ويعرف حدود كيانه .
بنظرة ايمانية بحتة يؤكد القديس يوحنا الدمشقي ان حدوث الكوارث هو دعوة للعودة الى الله :
حين نرى الكوارث، لا نسأل أين الله، بل أين نحن من الله .
الآلام الإنسانية :
تشمل الحروب والقتل والسرقة والقهر الاجتماعي وكل صنوف الأوجاع التي تصيب الإنسان يوميًا.
إن هذه الآلام ليست نابعة من إرادة الله أو موافقته، بل هي وليدة إرادة البشر التي تلبس رداء الشر أكثر الأحيان ,
لضيق مداركنا، كثيرًا ما ننسب الشرور والظلم إلى الله،لكن الحقيقة المعاكسة واضحة: فنحن نرى ضمن هذه الشرور العنيفة حفظ الله الفائق لحرية الإنسان، فلا تطغى مشيئته الإلهية على إرادة الإنسان، وهذا من فيض حب الله واحترامه للإنسان وإرادته الحرة.
مهما بلغت الفلسفات البشرية النابعة من القنوط والكآبة والجهل في تشويه صورة الخالق، فهي مرآة حقيقية لإرادة الشر عند الإنسان، شاء من شاء وأبى من أبى.
يؤكد القديس مكسيموس المعترف ذلك بقوله :
الذي يحتمل المصائب بصبر، يرى الله في داخله.
أما الذي يجزع، فيرى فقط غيابًا لا حقيقة له
الأمراض
ندرك وسط الحياة أنّ الأمراض نتيجة طبيعية لتفاعلات معقدة بين أجسادنا والعالم المحيط بنا , أجهزة مناعية، خلايا متمردة، فيروسات، طفرات جينية… كل ذلك يخضع لقوانين بيولوجية صارمة لا تعرف العاطفة أو الحزن.
وكلما غيبنا الله عن حياتنا وحملناه وزر أمراضنا، يظهر في الأمراض الحب العظيم لله تجاهنا.
فهو يمنحنا وسط المرض سلاما” وسكينة قد لا نحلم بالوصول اليها دون هذه الضيقة، ويلازمنا كل دقيقة في حياتنا، يمد يد حنوه ويمسح أجسادنا المرهقة بالحب والشفاء، كما يظهر في سر مسحة المرضى، امتدادًا ليد المسيح:
“فتبعه جموع كثيرة فشفاهم جميعًا” (متى 15:12).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم :
المرض ليس غضبًا من الله، بل طريق إلى الشفاء الحقيقي.
فالله لا يرسل المرض ليؤلمنا، بل ليطهّرنا من دنس الخطية .
الضيقات والمصائب
عندما نتحدث عن المصائب والضيقات، تتجه ذاكرتنا فورًا إلى أيوب البار، ونتساءل: لماذا صمت الله عن مصائب وضيقات أيوب؟
هنا قد يبدو المشهد معقدًا لكل من المؤمن والملحد واللاديني.
لكن الحقيقة العظيمة لمحبة الله تتجلى في قصة أيوب: رجل ثري يملك خيرات الأرض وبهائها، سرعان ما حوّلته الشدائد إلى فقير، فقد مرض ومات أولاده.
الله لم يكن صامتًا متفرجًا، بل كان وسط ألمه، ففتح ذهنه على اتساع الكون، وعلى قوة الحياة والفوضى التي لا يسيطر عليها الإنسان، وعلى حكمة الرب التي تتجاوز قدرة البشر على الفهم.
كما يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم والقديس غريغوريوسالنصيصي، إن صبر أيوب لم يكن خضوعًا سلبيًا، بل موقفًا حيًا من الألم يقوي الروح ويهيئها لفهم الله على نحو أعمق.
إن ضيقات أيوب صورة حية لضيقاتنا، وإن اختلفت أشكالها وألوانها، فالله دائمًا موجود وسطها، يفتح بصيرتنا على متسع كوني جديد، ويُرينا أنّ التجارب ليست عقابًا، بل تعليمًا عميقًا عن طبيعة الإنسان والله، وبوابةً لمجدٍ إلهي حقيقي.
أعظم مشهد عن الضيقات يتجلى على الصليب , حين نادى المسيح بصوت عالٍ:
“إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” (متى 27:46، ومرقس 15:34).
هذا المشهد يختصر تجربة الشعور بالهجران المطلق وسط الألم الشديد.
الله لم يغب عن المسيح، بل أعطاه مجد الألم الذي حمله عن البشر.
كم هو عظيم أن نحيا المجد الحقيقي ونحن وسط الضيقات!
المصائب والآلام، رغم بشريتها، هي تجارب روحية تمهّد لطريق الخلاص، وتدفعنا نحو دفء حضن الآب السماوي
ان الصراع العقلي عند الانسان المتارجح بين الفكر اللاهوتي و الفكر الفلسفي . يعطي قيمة مضافة حقيقية لهذه الاشكالية الازلية , اذ نجد حيادية الاجوبة عند الفلسفات المتعددة و علم النفس ,
عند قيام الكوارث الطبيعية يواجه الانسان ما يعرف ب ( صدمة المعنى ) , اي ان الانسان يشعر أن الكون فقد نظامه، وأن الله تخلّى عن دوره كحامٍ للخير .
فسّر فرويد هذا الإحساس على أنه صراع بين الاب السماوي , الذي يفترض ان يحمي , والواقع الذي يهدم هذا الامان . في حين يرى يونغ ان هذه الصدمات تكشف عن عقدة الظل الالهي في النفس البشرية , أي الجانب الغامض الذي لا نفهمه من الله , لكنه موجود في اللاوعي الجمعي .
اما في الامراض فالجسد يصبح مسرحا” للمعنى , يقول فيكتور فرانكل ( مؤسس العلاج بالمعنى ) :
الإنسان يستطيع أن يحتمل أي شيء، إن وجد له معنى .
أي أن الإيمان هنا ليس إنكارًا للمرض، بل اكتشاف معنى مقدس للألم , حتى حين يبدو الله صامتًا .
من الناحية النفسية، غياب الله الظاهر أثناء المرض قد يولّد اكتئابا ” وجوديا , لكن تجاوزه بالإيمان يعطي النفس تماسكا” اعلى ، وهو ما تسميه بعض المدارس ب المرونة الروحية .
اما في ما يخص الالام الانسانية والضيقات ومصائب الحياة فان علم النفس الانساني يرى أن الالم هو لغة النفس العميقة , وعندما يصمت الله فيه فإن النفس تُجبر على مواجهة ذاتها
يقول كارل يونغ : كثيرون لم يجدوا الله إلا بعد أن فقدوا كل شيء .
وسط الضيق يبحث المرء عن صورة الله في داخله , وهي ما تسمى عند يونغ بالذات العليا
اي , حين يختفي الله في الخارج , يبدأ الانسان رحلة اكتشافه من الداخل .
المشيئة الإلهية ذائبة في خِصب الأرض، تغدو استقامةً لسنابلها المكسورة الظهر، تشرق في الدجى كما في الظهيرة، لأن نور الرب لا يعرف غيابًا. ما كان الرب يومًا ظالمًا، حتى حين طلب من إبراهيم أن يذبح ابنه.
كم تاهت مقاصد السماء عن أعيننا، الناطقة فقط بواقعها المرّ، غير قادرة على رؤية الحكمة المستترة خلف الألم. حين سقطت أوراشاليم، كانت تبني مجدها الأبدي، وحين سيقت يهوذا إلى السبي، كانت تسير في طريق خلاصها.
جميلة هي إشراقات المقاصد الإلهية، حين تضيء الجزء الحزين فينا ببُعده عن الله. وحين نادى المسيح، لاهوته الممجَّد، وهو على الصليب مزهرًا بأطايب أوجاعه، قال: لقد تمّ.
نعم، لقد تمَّ العناق الأبدي بين الرب وإنسانه العتيق، ذلك المطرود من فردوسه القديم. لقد تمَّ بالفعل حضور المجد الإلهي في داخلنا، فلم يعُد لنا الحقّ حتى في همس سؤالنا الغليظ: أين الله في حياتنا؟
الله حاضر في ألم المخاض ساعة الولادة، وفي زفرات الفرح عند الموت الطيّب.
وكم تشتهي نفسي أن أعانق الله، وأستسمحه عن غيابي عنه وقت ضيقاته الكثيرة من خطاياي.
لتنزيل النص :الله الغائب الحاضر في الضيقات ميرابل جرجي
