لقد تلقى جبرائيل الأمر بأن يذهب إلى عذراء مخطوبة ويعلن لها البشارة السارة، لكن إحذر بأن تضطرب نفس تلك العذراء، تلك المدينة المتنفسة التي قال عنها النبي ” لقد قيلت فيك المفاخر يا مدينة الله”. إنه لأمر عجيب يفوق الإدراك، رهيب لدى الشيروبيم ولا يستطيع السارافيم التفرّس به، أنتَ الذي أدنت حواء تمجّد ابنتها بمثل هذا الاصرار. إذ إن أرجاء السماء والأرض لا تسعك، كيف توسع في حشا البتولي من دون أن يحترق. نعم لو أنّ النار احرقت العليقة في الصحراء، لأحرقت أحشاء مريم أيضاً.
أرسل عبد عديم الجسد إلى عذراء عديمة العيب، أرسل مصباح ليبشر بطلوع شمس العدل، أرسل جبرائيل إلى عذراء مخطوبة من جهة يوسف، منذورة من جهة أخرى للإبن. لم هي مخطوبة؟ لكي لا يتمكن اللص من إكتشاف السر. ينذهل الملاك عند مشاهدته هذا الإناء، ينذهل عندما يرى قدس الأقداس وخيمة الموعد، تابوت العهد عهد الجديد الذي سيسكن فيه الكلمة. يتحيّر ويقول فقط كما أمر : ” إفرحي أيتها الممتلئة نعمة الرب معك”.
كإنما بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت (رومية12:5) فالعهد القديم وجميع أبراره لم ينهضوا آدم وذريته من ثقل الخطيئة كونهم هم أيضاً مثقلون بها. فلما حان ملىء الزمان أرسل الله إبنه مولود من إمرأة (غلاطية4:4) ففي هذا اليوم لا نستبشر عن مجيء ملاك أو نبي بل الرب نفسه، يولد تحت الناموس ليخلّص شعبه، كونه فقط به تتقدس الأشياء. يخلّص آدم من طوفان الخطيئة ويزفّ الكنيسة إليه من جديد.
فهذه العذراء هي وحدها محط الطبيعة المخلوقة وغير المخلوقة، التي سوف تطوّبها جميع الأجيال التي تسبّح الله.
فخدمتنا الليتورجية تبيّن لنا أن العيد أولاً هو بشارة العالم بالخلاص، ثانياً هو دعوة آدم من جديد، ثالثاً هو تهيئة الخدر للختن الطاهر، رابعاً هو زواج المخلوق بالخالق، خامساً هو تأله طبيعتنا.
1- هو بشارة العالم بالخلاص: هذا الحبل العذري هو نقطة إرتكاز لتدبير الخلاص بكامله الذي أراد الله أن يحققه بولادته منها، لذلك نحن لا نؤمن بأن العذراء مصدر الخلاص، وذلك لأن مخلصنا هو المسيح وحده الذي إتخذ طبيعتنا وشفاها وصار بالنسبة للإنسان ” آدم الجديد” لذلك رئيس الأجناد لا يبشّر العذراء بل الخليقة كلها بالخلاص، لذلك طروباربية العيد تقول : “اليوم رأس خلاصنا وإعلان السر الذي منذ الدهور” .” أرسل الملاك ينبِئك بكلمة الخلاص ويناديك قائلاً السلام عليك يا ممتلئة نعمة الرب معك، أنك ستلدين الإبن المولود من الآب قبل الدهور فيخلص شعبه من خطاياهم”. كانين الكاثسما الثالثة من السحر.
2- دعوة آدم من جديد: يأتي المسيح ليعيدنا إلى أبيه ويصالحنا معه وليعيد لنا صورتنا المفقودة لنصبح من جديد بني النور، غريغوروس بالاماس يقول ” نحن البشر سقطنا من الوصية الالهية ونزلنا من الفردوس إلى الجحيم، فتوالت علينا شتائم كثيرة، فتشتتنا بالأشواك المتعددة الأنواع، أشواك الأهواء الشريرة، وحياتنا كلها أصبحت شقاء وحزن ووجع، لكن الإله الذي جبلنا برأفته وتطلّع إلينا بمحبته للبشر نزل وأخذ طبيعتنا من العذراء القديسة وأعادها”.
“افرحي يا استعادة آدم الساقط، افرحي يا نجاة حواء من البكاء والنحيب” المديح البيت الأول. ها إن العذراء تنجي آدم من قيد اللعنة ، “السلام عليكِ يا من بها تتجدد الخليقة” البيت الأول من خدمة المديح.
3- تهيئة الخدر(التي هي العذراء) للختن الطاهر ( الذي هو السيد): فخدمة العيد تحدثنا أيضاً عن هذا التهيؤ،” مستودع بتولي سيستقبل الإله المولود قبل الدهور”ذكصا كانين قطع الغروب إذ كيف يمكن أن يحل الذي لا يسعه مكان ولا يراه أحد في رحم عذراء أبدعه هو. ” قد أرسل الجندي السماوي إلى بلاط الحي الناطق ليسبق فيهيّيء للخالق مسكناً لا يفارقه . إفرحي أيتها… المقر الكلي الكرامة. فإنها حل فيك كل ملىء اللاهوت حلولاً جسدياً بمسرة الآب الأزلي ومؤازة الروح القدس. ” القطعة 3من الليتين. ” كيف يولد من فتاة عذراء الإله الغير المدرك الذي في العلاء. وكيف يتحيّز في مستودع إمرأةٍ الإله الذي السماء عرش له والأرض موطىء لقدميه” ذكصا كانين الغروب “جَعَلني خباءً قد زانه الله، وهيكلاً يَسَع اللاهوت، وخدراً حيّاً ناطقاً” من الأودية السابعة.
4- زواج المخلوق بالخالق: بعد السقوط كان لا بد من إستعادتنا إلى ما كنا عليه. إستبشري أيتها الأرض بالفرح العظيم، ففي الذكصا كانين الأبوستيخن مثلاً: ” اليوم بدت بشائر الفرح؛ اليوم أقبل موسم العذراء…فتتحد السفليات بالعلويات”. وأيضاً في القطعة الأولى من قطع الغروب: “السلام عليك يا جسراً ينقل إلى السماء. وهذا ما يؤكده كاتب خدمة المديح في البيت ال19″ إفرحي يا من آلفت المؤمنين مع الرب”.فأجابته العذراء قائلة:” ليكن الآن بحسب قولك، فألد الغير المتجسّد متجسداً مني لكي يصعد الإنسان باتحاده به إلى الرتبة الأولى”. القطعة 3 من الغروب
5- تأله خليقتنا: جاء الله نفسه إلى الناس ومكث فيما بينهم وأصبح واحداً منهم، جاء يساكننا لكي يجعلنا سكان السماء. إن الله قد نزل إلينا لكي يبطل عرشه السماوي، لكي يلغي عرشه السماوي، لكي يجعل عرشه هنا على هذه الأرض ويجلسنا معه على العرش كإلهيّين. ” لقد خاب آدم قديماً فلم يظهر الهاً كما إشتهى فصار الإله إنساناً ليصير آدم إلهاً”ً ذكصا كانين إينوس وأيضاً القطعة الثالثة من الأبوستيخن: ” ها إن إستعادتنا قد ظهرت لنا معتلنة. فإن الله يتحد بالبشر إتحاداً يسمو على الإدراك…لأن العذراء تقبّلت التحية السارة، فتغدو الأرضيات سماوية”.