“أمـّا أنتـم، فجسـد المسيـح وأعضـاؤه أفـرداً”
مقدّمة تمهيديّة
مشاركة المؤمنين في حياة كنيستهم هبة كبرى من هبات الروح القدس، مصدر الوحدة والتنوّع في الكنيسة، جسد المسيح. وهذه المشاركة، التي كلّنا مدعوّون إلى أن نلتزمها بفرح ومسؤوليّة، إنّما تتحقّق عبر حضور فاعل في حياة الجماعة التي يشكّل كلٌّ منّا، في خدمته ومواهبه، كياناً واحداً متنوّعاً ومتكاملاً معها.
لا يعوزنا التأكيد أنّ ثمّة خللاً كبيراً في مشاركة المؤمنين في حياة الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة. وهذا أثّر، ويؤثّر كثيراً، في دورهم وحضورهم الشهاديّ، في مرحلة تاريخيّة غاية في الدقّة والخطورة، لا سيّما بسبب ما يصيب مدانا المشرقيّ من أحداث كبرى، وما ينشأ عنها من أزمات ترافقها كالتهجير والهجرة والنزوح، والترك إلى كنائس أخرى، ومشاكل أخرى عديدة تتحدّى محبّي يسوع وكنيسته، وتستدعي تضافراً وتكتّلاً ورؤًى يتشاركون فيها، في سعي مسؤول إلى إبراز وجه كنسيّتهم وتحقيق أهدافها وتكريس قيمها الإنجيليّة. ولا نقول شيئًا خارج المألوف إن رأينا أنّ هذا التحدّي، وما يستدعيه، يفترض أن يتشارك المؤمنون، كلّ المؤمنين، في مواجهته وتداعيّاته، بفاعليّة كلّيّة، وفق آليّات، ترضي الله، تجمعهم. وإن قلنا المؤمنين كلّهم، فنشير، طبعًا، إلى التباين الكبير الذي يضربنا، اليوم، حول النظرة إلى حياة الكنيسة وشركتها. فالثابت أنّ ثمّة بيننا من يحصر مشاركة العلمانيّين في حياة كنيستهم بحضورهم في الحياة الليتورجيّة والطقسيّة، فيما يترك للكهنة، حصرًا أيضًا، تعاطي الإدارة والتخطيط وحتّى التعليم. وإلى هؤلاء، ثمّة، أيضًا بيننا، من يفتح المشاركة على أفاق تعبّر عن حيويّة الكنيسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة، وتاليًا من يدعو إلى التحرّر من كل الموروثات والممارسات التي أدّت إلى إحداث مفاهيم وتصنيفات حول المشاركة، تصطدم، في أحيان كثيرة، بهويّة الكنيسة وتعاليمها وتعليمها حول مفهوم المشاركة عينه.
هذا الواقع المتباين هو الذي دفع إلى إقرار نظام المجالس في الكرسيّ الأنطاكيّ العام الـ1972 بغية محاولة إعادة الأمور إلى نصابها التراثيّ. وعن هذه المحاولة كتب المطران جورج (خضر) في مجلّة النور:
“في بركات الرؤى، حاولنا ما لا يجرح موقفاً من مواقف العقيدة فلا تطغى على الكنيسة علمنة دنيويّة دخيلة، ولا سلطويّة إكليريكيّة كانت هي دخيلة أيضاً. وكان المهمّ أن نؤسّس التنظيم على قواعد الإيمان، لنهرب من هواجس النفس إذا أمرت بالسوء من الفئويّة الظالمة ومن أخطاء تراكمت جيلاً فجيلاً. فإذا إنحرفنا، لسوء تصرف الرؤساء أو لعلمنة الأذهان، فلا نقلبنّ المفاهيم، ولا ندمّر القواعد ولكن لنعود إلى الأصول. ففي الكنيسة، كما في غير مجال، ما بني على الفساد فاسد. نحن تراثنا يمجّ الفئويّة العلمانيّة، ويكره المواجهة المتحجّرة العدوانيّة بين إكليروس وشعب”.
هذا الوئام بين الراعي والرعيّة وصفه في القرن الثالث القدّيس قبريانوس القرطاجيّ هكذا: “مذ تسلّمت وظيفتي الأسقفيّة، كان قراري الرئيس ألاّ أقوم بشيء من نفسي بغير مشورتكم وموافقة الكنيسة”، صاحب هذا القول يعرف أنّ الأسقف “يمثّل الإله القدير”، كما قال كتاب قديم، ولكنّه يعرف، أيضاً، أنّ الأسقف، في الكنيسة، يلتقط همسات الروح من إخوة له علمانيّين أحبّة. وإذا تمرسّنا في المحّبة، نعطيها ونعطاها، نكون قد قطعنا شوطاً عظيماً من القانون إلى النعمة.
القسـم الأوّل:
1- مشاركـة المؤمنيـن فـي حيـاة الكنيسـة، بحسـب التعليـم
على أنّ مشاركة المؤمنين جميعاً، كهنةً وعلمانيّين، في الكنيسة الأرثوذكسيّة أمر واضح جليّاً إن في عقيدتها أو قوانينها، غير أنّ وضوحه لم يكن ظاهراً في واقع حياتها، بل كان يعتوره، دائماً، انحراف مضنٍ . فالعلمانيّون كثيراً ما هُمّشوا. وهذه ظاهرة عامّة في معظم كنائسنا، لدرجة أنّ اللجنة التحضيريّة للمجمع الأرثوذكسيّ المقدّس الكبير، الذي كان يحضّر لانعقاده في النصف الأوّل من سبعينيّات القرن المنصرم، قد أعدّت ستّ وثائق لمناقشتها فيه، من ضمنها وثيقة ثانية وردت تحت عنوان “مشاركة أوسع للمؤمنين في عبادات الكنيسة وحياتها”. وقد تمّ نشر هذه الوثائق، بهدف إثارة ردود فعل محتملة، عبر نشـرةEPISKEPSIS الصادرة عن البطريركيّة المسكونيّة في جنيف العدد 41 .
ونورد، هنا، بعض ما ورد في الوثيقة المذكورة:
“تعترف اللجنة بـ”أنّ التعليم العقائديّ والشرعيّ لكنيستنا الأرثوذكسيّة المقدسّة واضح تماماً. العلمانيّون مع الإكليروس يؤلّفون جسد المسيح (رومية 12: 5؛ 1كورنثوس 12: 27؛ أفسس 5: 30)، شعب الله (متّى 1: 21، 2: 6؛ عبرانيّين 10: 20 و11: 25؛ رؤيا 18: 4 و21: 3)، الكهنوت الملوكيّ (1بطرس 2: 9). في الكنيسة المنظورة، أقيم رعاة وخراف (أعمال 20: 28 و1بطرس 5: 2؛ أفسس 1: 12).
الكهنة والعلمانيّون يؤلّفون جسد المسيح غير المنقسم، الكنيسة الواحدة وغير المنقسمة هي الكلّ، كهنة وعلمانيّون يشتركون في سرّ المعموديّة الذي، عبره، يرتبطون بالجسد الواحد نفسه، الكنيسة، يشتركون في سرّ الإفخارستيّا في كلّ نعم الروح القدس المعطاة بالأسرار أو بطرائق أخرى. في الكنيسة، يتميّز الكهنة عن العلمانيّين بالكهنوت المقدّس.
إذاً، مسألة مشاركة العلمانيّين في حياة الكنيسة، محلولة بوضوح في محتواها العقائديّ والشرعيّ…. ونعتقد، تماماً، أنّه لم توجد، مطلقاً، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، ولا يوجد، الآن، حركات علمانيّة عفويّة هدفها الحصول على حقوق وواجبات أخرى في الكنيسة تختلف عمّا كان للعلمانيّين منذ تأسيس الكنيسة. ذلك بأنّهم شاركوا، دائماً، بفعاليّة، في خدمة الكنيسة، في عباداتها وإدارتها ورعويّتها، وفي عملها التعليميّ الدينيّ، وذلك وفقاً للحقوق والواجبات المخصّصة لهم بموجب التقليد المقدّس والقوانين المقدّسة. فواجبات العلمانيّين الرئيسة وحقوقهم، كما هو حال جميع أعضاء الكنيسة، هي الحياة في ملء مواهب النعمة الإلهيّة في وسط كنيستنا المقدّسة، والشهادة بالكلمة وبحياتهم للمسيح المخلّص ولإنجيله” .
هذه الوثيقة استهلّت بعبارة “تعترف اللجنة”. وهذا أمر لافت في تأكيده أنّ موضوع المشاركة لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه. غير أن العبارة التي وردت في خاتمتها والقائلة “أن ذلك لا يُشكّل حالياً مسألة مُلحّة في الكنيسة”، أنتجت ردوداً عدّة تُشدّد على أن المسألة مُلحّة جدّاً، أبرزها من البروفسور جان كرميرسي الذي قال:
“… إنّ موضع العلمانيّين في الكنيسة الأرثوذكسية المعاصرة يختلف عن الموضع الذي كان تعليم الكنيسة الأرثوذكسيّة يفرضه في زمن العهد الجديد وفي الكنيسة الأولى وحتّى نحو منتصف القرن الثالث. فبعد ذلك، بوشر بإهمالهم. وخسر العلمانيّون، عبر العصور، كثيراً من حقوقهم، كلّيّاً أو جزئيّاً، ولأسباب تاريخيّة متعدّدة، ولا سيّما تمثيلهم بواسطة الأمبراطور البيزنطيّ (وهذا ما يحدث، اليوم، جزئيّاً، عبر رؤساء الدول والحكومات عند انتخاب الأساقفة مثلاً…). ونتيجة لذلك، عاد العلمانيّون لا يمارسون هذه الحقوق، ولا يتمّون الواجب الذي ألقاه مؤسّس الكنيسة على عاتقهم…. لقد حان الوقت، ليستعيد العلمانيّون حقوقهم وواجباتهم، ويمارسوا عضويّتهم الكلّيّة في جسد المسيح، في حياة كنيستهم “.
وفي ردّ آخر، حذّر الكاتب نيقولا ماتسوكاس من المخاطر الناتجة من استمرار تغييب العلمانيّين عن حياة الكنيسة، التغييب الذي يؤذي الحياة الأسراريّة، ويجعل المؤمنين يتقبّلون، بطريقة سِحريّة، مواهب الروح القدس، ويزيد خطر سيطرة النزعة الأخلاقيّة والطهريّة التي هي نقيض الحياة الكنسيّة.
المشاركـة تعبيـر حتمـيّ عـن الكنيسـة كجماعـة مواهبيّـة:
من المسلّمات الأرثوذكسيّة أنّ الكنيسة هي جماعة مواهبيّة، مدعوّة إلى تجسيد الاتّحاد بالتنوّع، والمحافظة على التنوّع بالاتّحاد، على صورة الثالوث الأقدس. لذا، تستدعي الأمانة لهذا التعليم تكريس المشاركة في حياة الكنيسة اليوم، وتعزيزها وتعميقها لما يخدم اكتشاف المواهـب وتفتّحهـا وإنضاجهـا وتغذيتهـا بالخبرات، وإطلاقها في مجالَيْ الشهادة والخدمة.