القمر والإيمان

mjoa Tuesday September 16, 2008 336

لقد كان لغزو القمر، كما لكل العمليات الفضائية التي سبقته ومهدت له، أصداء على الصعيد الإيماني. والكثيرون، ولا شك، سمعوا بهذه المناسبة رأيين يبدوان لأول وهلة متناقضين: أولهما رأي عدد من المؤمنين الذين رأوا في غزو الفضاء، والقمر بنوع خاص، عملاً كفريا لا بد له أن يستدعي من قبل الله تدابير “دفاعية” أو “انتقامية”. نجد شاهداً لهذا الموقف في نبأ أوردته الصحف  مؤخرًا، فقد لوحظ أن الطقس، منذ 19 تموز، تاريخ دخول أبولو 11 في المدار القمري، قد ساء في المنطقة الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة حتى أن مدينة نيويورك لم تشاهد الشمس سوى خمس ساعات في فترة عشرة أيام. 

.

 بناء عليه إعتقد الكثيرون من الأميركيين أن هناك علاقة سببية بين الرحلة القمرية من جهة وهذا التحول في الطقس من جهة ثانية. “فمنذ أسبوع، تنهال على مكتب الرصد الجوي وعلى محطات الراديو التي تذيع بيانات عن حالة الجو المنتظرة، مكالمات هاتفية قلقة. فقد صرّح مئات من الناس، مستشهدين بالتوراة والأناجيل، ذاكرين معركة هرمجدون ونهاية العالم، أن الرب، وقد أغضبته جسارة الناس، حرمهم من الشمس إلى الأبد” . وأما الثاني فهو رأي الذين رأَوْا في انتصار الإنسان هذا برهاناً جديداً وقطعيًا على عدم وجود الله، رأيًا نجد نموذجاً له في تحقيق أَجْرَته إحدى الصحف في الشارع البيروتي إثر رحلة أبولو 8. فإنه بالرغم من مظاهر التدين التي رافقت تلك الرحلة كقراءة رواد الفضاء لفصول من سفر التكوين وقيام قائد العربة الفضائية، بورمان، أثناء دورانه حول القمر، بتلاوة الصلاة التي كان مفروضًا أن يقرأها ليلة الميلاد في الكنيسة الأسقفية التي يشغل فيها رتبة قارئ، رغم ذلك كله نرى أحدهم يعبّر عن انطباعاته بقوله: “هذا يثبت أن لا سماء ولا جحيم. لم يصادف رواد الفضاء الله في الفضاء. هذا انتصار للعلم على الاعتقادات البشرية” .

 

قلت إن هذين الموقفين يبدوان لأول وهلة متناقضين، ولكنهما بالحقيقة متشابهان في الصميم. ذلك لأنهما ينطلقان من تصور واحد لله، تصور لا يسعنا إلا أن ندعوه صنمياً.

فمن جهة يُعتبر الله، في هذا المنظار، طاغية متجبراً، همّه أن يحدّ من انطلاقة الإنسان، وكأن ألوهته لا تقوم إلا على إذلال هذا المخلوق وحصره ضمن إمكانات ضيقة وأعمال وضيعة. ينتج عن هذا التصور، بصورة منطقية، أن تأكيد الإنسان لنفسه وبلوغه مرحلة الرشد لا يتمان إلا بإزاحة شبح هذا الإله الكابوس، وأن كل قفزة للإنسان إنما هي تحدٍّ، وبالنهاية نفي، لذلك الإله الذي يحول بين الإنسانية وتحقيق ملء طاقاتها.

 

ومن جهة أخرى يُعتبر الله، في المنظار نفسه، كائناً قائمًا في الفضاء أو بالأحرى يُعتبر ضمنًا كائناً لا يتميّز عن الفضاء الشاسع وعن أجرامه البعيدة الغامضة. ولذا يصبح، والحالة هذه، غزو الفضاء بمثابة غزو الله والتسلط عليه، أو بعبارة أخرى- وهنا يكتفي الملحدون باستخلاص كل نتائج  هذا الموقف الإيماني الزائف- يصبح غزو الفضاء وأجرامه نفيًا لله، إذ أن الهاً يُستولى عليه لم يعد ممكناً اعتباره إلهاً.

 

تلك هي الملابسات التي تبدو لنا محيطة بالموقفين اللذين نحن بصددهما، إذا شئنا أن ندّقق فيهما وننفذ إلى أعماقهما. وهكذا يتضح لنا أنهما، على تناقضهما الظاهري، وجهان، إيجابي وسلبي، لموقف واحد من الألوهة، مفجع.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share