طبعات أخرى: منشورات النور -الطبعة الثانية – 1988
هذا الحديث نابع مباشرة، كما يشير عنوانه، من المأساة التي عاشها لبنان و لا يزال منذ عام 1975. و قد كتب جلّه في فترة حادة جداً عرفتها هذه المأساة في العام 1976، بناء على طلب فريق من الشبان كانوا يحاولون أن يبقوا مفتوحي الأعين، متوقدي البصيرة، في وسط العاصفة الهوجاء التي كانت تهز مجتمعهم و تهدد مستقبلهم وتشيع القلق في نفوسهم. رأوا الحرب الأهلية تسحق و تدمر كل شيء بما فيه القيم التي نشأوا على احترامها وتقديسها، وقد راعهم ما شاهدوه من انفلات الغرائز لدى شبان من عمرهم. فلجأوا إلى الفكر لا ليتخذوا منه برجاً عاجياً يعتزلون به عن بيئتهم و يحتمون فيه وهمياً من هول المأساة، إنما ليستنيروا به من أجل فهم ما يجري حولهم و بالتالي مواجهته بالوعي و المسؤولية المتناسبين مع حجمه و خطورته. هكذا نشأ الحديث المتخذ موضوعاً لهذا الكتاب.
ففي العام الدراسي 1975-1976 كنت أدرس علم النفس في صف الفلسفة في ثانوية طرابلس – الملعب الرسمية للبنين، وسط ظروف صعبة للغاية فرضتها ضراوة الأحداث التي كثيراً ما كانت تعطل الدروس. و في خضمّ هذا الجو المضطرب تنادى عدد من طلاب الصف المذكور إلى إنشاء هيئة ثقافية تتعاطى شؤون الفكر، فأتت هذه البادرة الشبابية طريفة فعلاً في زمن مشحون بالتوتر و الانفعالات. و كأنهم كانوا يعبرون بها عن حرصهم على أن يبقى للعقل صوت مسموع لا يسكته قصف المدافع و دوي الانفجارات.وكأني بهم قد أدركوا المعنى العميق لانتمائهم إلى صف سمي “صف الفلسفة “، و فهموا أن السمة الأساسية، التي يتميز بها هذا الصف عن سواه، إنما كونه يعد لأكثر من نيل شهادة أو تخزين معلومات أو حتى اكتساب مهارات عقلية، لأنه يتوخى مساعدة طلابه على تنشئة فكر شخصي يواجهون به قضايا الحياة و مشاكل المجتمع .
و قد انبثق عند هؤلاء الشبان، نتيجة الهاجس الثقافي الذي جمعهم، فكرة عقد ندوة عامة يدعون إليها زملاءهم في مختلف ثانويات طرابلس، و يطرح فيها موضوع ” الحرية “. و هنا ينبغي التنويه بأن هذا الموضوع الذي راود الفكر البشري منذ أقدم العصور و تصارعت حوله مختلف المذاهب، لم يكن مطروحاً لدى الشبان الذين نحن بصددهم، بشكل مجرد و لا زمنيّ. إنما كان يرتبط في أذهانهم وإحساساتهم بما كانوا يشاهدونه حولهم من صور مقلقة برزت في سلوك الجيل الذي كانوا ينتمون إليه. فقد كانت الأحداث المأساوية، كما أشرنا، فرصة لتفلّت الغرائز عند الكثيرين من الشبان، و اتخذ هذا التفلّت أشكالاً متنوعة، متفاوتة الخطورة. فمن هجر للدراسة دون موجب حقيقي أو تمرد على الأنظمة المدرسية، إلى قيادة السيارات بسرعة جنونية و تعاطي القمار و المخدرات والأفلام الخلاعية الرخيصة و استعمال السلاح للسلب و الإجرام، كل ذلك باسم حرية غاب رشدها و فقدت صوابها، فأصبحت مدمرة لصاحبها و لمحيطه.
من هنا أتى طرح هؤلاء الشبان لموضوع الحرية طرحاً، لا أكاديمياً يتناولها في المطلق، بل وجودياً ينطلق من صميم المعاناة الإنسانية الراهنة. و قد شاءوا أن يسندوا مهمة معالجة الموضوع إلى الأستاذين الذين كانا يتقاسمان مهمة تدريسهم الفلسفة العامة في تلك السنة، أي إلي، بصفتي مدرس مادة علم النفس، و إلى زميلتي الأستاذة غزوة نابلسي، بصفتها مدرسة مادتي المنطق و الأخلاق. و إذ حصلوا على موافقتنا على قبول هذه المهمة، وجّهوا بطاقة، باسم طلاب صف الفلسفة في ثانوية الملعب – طرابلس، تدعوهم إلى المشاركة في ندوة حول موضوع : ” الحرية و بعض المفاهيم المطروحة “.
و قد أقيمت فعلاً يوم السبت الواقع في 19/6/1976، الساعة الرابعة بعد الظهر، في بيت حركة الشبيبة الأرثوذكسية في طرابلس – الميناء، وشارك فيها عدد كبير من الشبان والفتيات. ولا بدّ من الإشارة هنا أن الطالبات اللواتي كنت أدرّسهن علم النفس ف الصف في صف الفلسفة التابع لثانوية راهبات القلبين الأقدسين في ميناء طرابلس شاركن في التحضير لهذه الندوة وتولت إحداهنّ مهمة إدارتها.
هذا وقد طرح عليّ الطلاب المشرفون على الندوة الأسئلة التالية طالبين أن أجيب عنها في مداخلتي :
1- الحرية : ماهيتها وتحديدها من الناحية النفسية.
2- ما هي أسباب الانفلات الذي نشاهده حالياً في سلوك بعض فئات من الشباب ؟
3- ما هي الوسائل الكفيلة بأن تحمل الشباب إلى ممارسة الحرية الحقة ، المسؤولة ؟
وقد تقيدت فعلاً بهذه الأسئلة، فحاولت في القسم الأول من حديثي (وهو ما ورد في الفصل الأول من هذا الكتاب) أن أوضح مفهوم الحرية على صعيد فلسفي وان أبيّن بآن معاً مقوماتها السيكولوجية. أما في القسم الثاني (وهو موضوع الفصل الثاني من الكتاب) فقد عالجت ما بدا لي من أسباب انحراف الحرية، لدى عدد من الشباب، إلى منحنى سلبي ومدمر، كما برز في خضم الأحداث الراهنة. فتراءى لي أن هذه الأحداث لم تكن لتتخذ كل البشاعة التي اتسمت بها، ولتفرز كل التجاوزات التي ولّدتها، لولا أنها لم تكشف وتفجّر أمراضاً وانحرافات كامنة أنشأتها تربية خاطئة وهيكلية اجتماعية غير سليمة. ومن هذا التحليل استخلصت جوابي عن السؤال الثالث (وهو موضوع الفصل الثالث من الكتاب) إذ بينّت أن تقويم الحرية لدى الناشئة يفترض إعادة نظر جذرية في النمط التربوي، تستند بدورها إلى إحداث تغيير لا يقلّ جذرية في التركيبة الاجتماعية.
حصيلة تأملاتي هذه أسوقها إلى قرّاء هذا الكتاب الثالث من سلسلة “تساؤلات الشباب”، وخاصة إلى الشباب منهم، الذين تتوجه إليهم بنوع خاص هذه السلسلة. سوف يجدون أنني في هذا الكتاب. تعرضت، اكثر مما فعلت في الكتابين اللذين سبقاه، للعوامل الاجتماعية من حيث تأثيرها البالغ في ذهنية الأفراد وسلوكهم. ولا غرو، فان طبيعة الموضوع كانت تحتم عليّ ذلك. وقد حاولت، في تحليلي لهذه العوامل، أن أكون موضوعياً قدر الإمكان، ولكنني لم أُخْفٍ التزامي حيال قضايا تستدعي بالضرورة الالتزام، كما أن نبرتي لم تَخلُ من حدة أملاها حجم المعاناة. ما أرجوه هو أن تساعد هذه المساهمة المتواضعة بعض القراء على اتخاذ المواقف الجذرية التي تقتضيها الظروف والتي من شأنها أن تضع أسس هذا اللبناني المتجدد الذي نصبو إليه بعد طول الآلام وفداحتها.
أسكلة طرابلس، لبنان، في 26 شباط 1982.
كوستي بندلي