آباؤنا كيف نقرأهم – الأب ميخائيل الدبس،المؤتمر ال23 لمركز طرابلس

mjoa Monday October 24, 2011 229

آباؤنا كيف نقرأهم

 

-لمحة تاريخيّة: “نحن باتّباعنا الآباء القدّيسين” ، عبارة كانت تبدأ بها النّصوص العقائديّة في الكنيسة القديمة، وبها بدأت بنود المجمع المسكونيّ السّابع، فبدأت بالجملة التّالية: “نحن، باتّباعنا لتعاليم آبائنا القدّيسين المسلّمة لنا من الله و لتسليم الكنيسة الجامعة” . أوّل ما يتبدّى لنا من هاتَين الجملتين هو الفضل الكبير لمن سُمّوا “آباء” في تسليمنا الإيمان المستقيم. متى بدأ استعمال هذه الكلمة، بمعناها الوارد في الجملتين المذكورتين؟

في القرون الثّلاثة الأُولى كان التركيز على الكتاب المقدّس والحقبة الرسوليّة التي كانت، زمنيًا، أقرب إلى الذاكرة البشريّة ولا يفصل بينها وبين الرسل أكثر من جيلين أو ثلاثة. فالتّركيز، في حفظ الإيمان، كان على مضمون الكرازة الرسوليّة التي كانت تُسلّم من جيل لآخر ضمن حقبة زمنيّة لا تتعدّى 200 عام.

مع الإبتعاد الزمنيّ عن الحقبة الرسوليّة غدت الأمور أكثر تعقيدًا، وصار لا بدَّ من الاعتماد على حلقات وصل بين كرازة الرسل و الأجيال اللاحقة، وقد تكاثرت بينها أشكال البدع والإنحرافات. ضمن هذا السياق، بدأ يظهر، لأوّل مرّة ورسميًّا، مبدأ استدعاء سلطة “الآباء” كشهود على استمرار الحياة الرسوليّة من جيل لآخر. فظهر، بدءًا من القرن الثالث، مثنّى “الرسل والآباء”.

مع بداية تشكّل قانون العهد الجديد إضافة إلى العهد القديم و اعتبارهما أساسًا للإيمان، وبسبب استشهاد الهراطقة بهما كسند لتعليمهم، بزرت مسألة التفسير المستقيم و المناسب للكتاب المقدّس. فنشأ مثنّى ثاني هو “الكتاب والآباء” واعتبر الأشخاص الذين برزوا في تفسير الكتاب آباء و معلّمين بامتياز.

استعملت عبارة “آباء”، من حين لآخر، من قبل الكُتّاب الكنسيّين الأوائل حتى غدا الإستشهاد بهم علامة فارقة للنقاش اللاهوتيّ خلال حقبة المجامع المسكونيّة.كانت تعني، بدءًا وببساطة، معلميّ الكنيسة، ثم تحولت إلى لقب للأساقفة كونهم المعلّمين الرسميّين للإيمان و الشهود له. بعد ذلك استعملت للدّلالة على أساقفة المجامع. القاسم المشترك لهذه الحالات هو الوظيفة التعليميّة الضامنة لاستقامة العقيدة و تعليم الرسل و التفسير السليم للكتاب المقدس في وجه التفاسير المنحرفة .

-آباء الكنيسة: إنطلاقًا ممّا ذكر، لا تُعتبر مسألة الإلتزام بتعاليم الآباء وجهة نظر، يختلف حولها أرثوذكسيّ مع أرثوذكسيّ آخر. فتعاليمهم ليست تعاليم أفراد أو مفكّرين يمثّلون شخصهم، بل هم قنوات الروح القدس في المجامع الكنسيّة وملهموها و الناطقون باسمها. لذا سُمّوا، على مرِّ العصور، آباء الكنيسة. هم ليسوا آباء لبنوّة مجرّدة، بل لبنين ولدوا من “الماء و الروح”، بنين لا يفصم وحدتهم تعاقب عصور أو موت جسديّ. هم جسد المسيح الممتدّ على مدى الزمان و إلى الأبد. فالماضي و الحاضر والمستقبل يختصرون في حاضر المسيح، “يسوع هو بالأمس و اليوم وإلى الأبد” (عب12،8). هنا تنكشف لنا حيويّة الفكر الآبائيّ و خاصيّته الأبديّة العابرة للزمن. هذه مسلّمة من مسلّمات الفكر المسيحيّ الأرثوذكسيّ. وما حضُّ الكنيسة لأبنائها على قراءة مؤلفات الآباء ودراستها و الإستشهاد بها و العودة إليها لاستشراف حلول لمشاكلها إلّا انعكاسًا لرسوخ هذه المسلّمة. ومع إحياء التراث الآبائيّ في كنيستنا، منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي، بدأت تظهر مشكلة في التعامل مع النتاج الآبائيّ، مشكلة قائمة حول نظرتين مختلفتين لمؤلّفات الآباء القدّيسين و كيفيّة قراءتها و الإستشهاد بها. قبل أن نلج مسألة هذا الإختلاف لابدّ من أن نوضح بعض القواعد الأساس في نظرتنا للآباء.

-قواعد عامّة:

1- لابدّ من التمييز بين تسمية “آباء” وتسمية “قدّيسين”. لا نعتبر هذا التمييز تمييزًا نوعيًا بل هو تمايز مواهبيّ. الآباء هم حكمًا قدّيسون، ولكن ليس بالضرورة كل القدّيسين “آباء” بالمعنى التّقنيّ-المواهبيّ الذي أوردناه في بداية هذه الورقة. فتمايز القدّيسين عن بعضهم دفع الكنيسة إلى تصنيفهم في مراتب متعدِّدة. وهذا ما يبدو واضحا في ذبيحة القدّاس، التي يعدّها الكاهن، من خلال الطّغمات التسع التي يقتطعها الكاهن من القربان و يضعها عن يسار الحمل. كلامنا في هذه الورقة هو على الآباء أي أولئك القدّيسين الذين كان لهم الدّور الأوّل في حفظ الإيمان وصياغة العقائد و تفسير الكتاب. قد جمعوا في شخصيّاتهم خصائص ثلاث: 1) المعرفة العلميّة والإلهيّة. 2) الفضيلة. 3) محبّة المسيح و محبّة كنيسته. أضف إليها خاصيّة رابعة لم تشمل مجمل الآباء و هي “الأسقفيّة الرعويّة”. في هذه الخصائص تكمن فرادة الآباء وتمايزهم عن باقي القدّيسين.

2- لم يكن مجمل نتاج الآباء الفكريّ نتيجة ترف علميّ أو أدبيّ بل كان وليد حاجة رعائيّة، وفي بعض الأحيان تعبيرًا ذاتيًا عن عشق إلهيّ غمر كيانهم فعبّروا عنه أدبًا و شعرًا (أشعار غريغوريوس اللّاهوتيّ وسمعان اللّاهوتيّ الحديث و غيرهم). فهم لم يتصنّعوا الكتابة أو الوعظ، وما فكّروا يومًا أنّ عظمتهم ستكون على قدر ما تركوا من آثار كتابيّة. لذا لم يعالجوا من المشاكل والقضايا إلّا ما مسّ حياة المؤمنين و خلاصهم. همّهم الوحيد كان محبّة المسيح و محبّة كنيسته. لذا يجب ألاّ ننتظر من مؤلّفاتهم حلولًا جاهزة لكلّ المسائل و المواضيع الكنسية والإجتماعيّة التي تواجهنا اليوم.كما يجب الّا نستغرب عدم استشهاد أحدهم، اليوم، بجمل من الآباء عند معالجته لمشكلة، تمسّ حياة المؤمنين في عصرنا، لم تُطرح في عصر أيّ من الآباء (موضوع الجنس مثلًا). فالعودة إلى الآباء والإستشهاد بهم لا يعفيان من يُعلّم ويرعى من مشقّة البحث و استنباط الحلول التي تلائم الإيمان المسيحيّ من جهة، وحاضر هذا العصر من جهة أخرى.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share