فتنة الاستهلاك أم فرح المشاركة؟ (بعنوان “الإيمان ومجتمع الاستهلاك”) –”الانجيل على دروب العصر” – تعاونية النور – الطبعة الثانية – 2001

mjoa Wednesday September 24, 2008 229

طبعات أخرى: منشورات النور – الطبعة الأولى – 1982

 

fitnahهذا الكتاب صدر للمرّة الأولى، في حزيران 1982،  بشكل كرّاس صغير الحجم من 63 صفحة. اكتفى آنذاك بأن يَنقل، مع بعض الإيضاحات البسيطة، نصّ حديث كان قد أُلقيَ قبل ذلك في لقاء شبابيّ. ولكنّه، على ضآلة حجمه، لقي صدىً مُسْتَحَبًّا في أوساط الشباب، المسيحييّن منهم وغير المسيحيّين. وقد لفتني وقتها أنّه صادف رواجًا في فريق من الشباب المسلمين الملتزمين إيمانيًّا، بعد أن عرّفهم إليه صديق مسلم كان زميلاً لي في التعليم الثانويّ الرسميّ.

.

 

بالنظر إلى هذا الصدى الإيجابيّ، وبالنظر إلى خطورة الموضوع الذي يعالجه الكتاب، والذي ما زال مطروحًا بحدّة في عالم اليوم، فقد كان لديّ اهتمام خاصّ، طيلة ثماني عشرة سنة انقضت منذ طبعته الأولى، برفده بعناصر جديدة نابعة من مطالعاتي. وقد تراكمت هذه الروافد ومَهَّدَ تجمّعها لإمكانيّة صدور الطبعة الموسَّعة الحاضرة التي لم تعد، كما كانت حال الطبعة السابقة، مجرّد عُجالة غايتها إبراز موقف نقديّ من مجتمع الإستهلاك، بل غدت، على ما أظنّ- والقارئ هو الحَكَمَ في آخر المطاف- دراسة متكاملة تصلح لتكون مرجعًا لمن شاء الإطّلاع، بشيء من التفصيل والعمق، على معالم ما يسمّى اليوم بـ”مجتمع الإستهلاك” وأُواليّاته وتوجّهاته وقِيَمه ومُناخه وآثاره، ولمن أراد مواجهة كلّ ذلك برؤية إنسانَويّة (أي حريصة على إحقاق إنسانيّة الإنسان) وإيمانيّة بآن.

وللكتاب شِقّان، تحليليّ وتقويميّ، متداخلان حتمًا، ولكن أوّلهما يغلب في القسم الأوّل من الدراسة، والآخر في قسمها الثاني. ويستند التحليل إلى معطيات العلوم الإنسانيّة، من علم نفس واقتصاد وعلم اجتماع. أمّا التقويم فيركن لا إلى المراجع الدينيّة فحسب، وهي هنا التراث الإنجيليّ في أصله وتفرّعاته، بل أيضًا إلى المواقف النقديّة التي صاغها عدد من المفكّرين الذين اتخذوا لهم منطلقات إنسانويّة بحتة، ولكنّهم التقوا مع الإلهام الدينيّ في حرص واحد على كرامة الإنسان وجدوى وجوده وسعة آفاقه وإنقاذه من كلّ ما يخادعه ويستلبه ويزيّفه ويحجّمه.

هنا لا بدّ من توضيح على ما أعتقد. ذلك  أنّ نقدنا مجتمع الإستهلاك ليس موجّهًا ضدّ الإستهلاك  بحدّ ذاته. بَدَهيٌّ أنّ الإستهلاك ضرورة طالما أنّ للإنسان حاجات. لذا فلا مأخذ معقولاً على قضاء هذه الحاجات عن طريق استهلاك ما يسمح بإشباعها، من طعام وشراب وملبس ومسكن وأدوات منزليّة ووسائل نقل وما شابه ذلك. لا بل إنّ عمليّة الإستهلاك تحمل في ذاتها ما يسمح بتخطّي واقعها المادّيّ البحت بإتجاه تحقيق توق إنسانيّ يتجاوز الحاجة الصِرفَة. فتناول الطعام مثلا هو أيضًا مسعى إلى تحقيق اللقاء وتوطيد العلاقة عبر المشاركة في وجبة واحدة (من هنا أهميّة المائدة العائليّة، ودور “الخبز والملح”، كما يُقال، في إقامة أواصِر الألفة وترسيخها). والمسكن ليس مجرّد بناء يُؤوي الناس ويقيهم تقلّبات الجوّ، ولكنّه أيضًا جامع المحبّين “تَحتَ سقف واحد” ومرتكز حضورهم المعنويّ بعضهم إلى بعض. من هنا الترادف، لغة، بين” البيت” و”الأسرة”.

ولكنّ مجتمع الإستهلاك ليس همّه أن يدعو إلى إستهلاك طبيعي، مشروع (يحجبه على كلّ حال عن شريحة من البشريّة واسعة)، إنّما – وهنا يكمن شططه وخطره الفادحان- يجعل من الإستهلاك القيمة المطلقة ويقيمه مرادفاً للوجود ومبرّرًا له. لذا فهو يسعى بكلّ الوسائل لاختزال الإنسان في حاجاته، لا بل لتضخيم هذه الحاجات بشكلٍ متواصل ومصطنع، كي يصبح هذا الإنسان مشغولاً بها بالكليّة، لاهثاً من دون انقطاع وراء إشباعها، وتاليًا مندفعًا إلى الشراء بِنَهَم لا يعرف الشبع والإكتفاء، فيحقّق بذلك الأغراض التجاريّة التي يرسمها المهيمنون على ذلك المجتمع والتي يسخّرون لها الجمهور، متلاعبين بعقله ومشاعره عن طريق استخدام وسائل الإعلان بأسلوب بارع ومدروس.

إنّهم، بذلك، يتجاهلون عمدًا أنّ الإنسان ليس مجرّد كتلة حاجات، بل كائن رغبة وشوق، مدفوعٌ بكلّ جوارحه نحو لقاءِ ما هو أبعد من ذاته الراهنة، والذي بدونه لا سبيل له إلى تحقيق ذاته في أصالتها ورحابتها. لا بل إنّهم يتجاهلون البعد المعنوي للحاجات، هذا الذي سبق أن أشرنا إليه، ويختصرونها في وجهها المادّي البحت الذي يعني وحده بشكل مباشَر مقاصدهم التجارية، فيمعنون في التركيز عليه. لذا تراهم يُفرغون حتّى الجنس – وهو حاجة مرتبطة في الصميم بعلاقة مع آخر- من بُعده اللقائيّ الأساس الذي يعطيه فرادته الإنسانيّة، ويحجّمونه إلى سلعة معروضة للإستهلاك ومروِّجة لِسِلَعٍ استهلاكيّة أخرى.

هكذا يتفنّن مجتمع الإستهلاك في أساليب إلهاء الإنسان بحاجاته، بغية صرف نظره عمّا يشكّل لبّ ذاته وقلب كيانه، ألا وهو توقه إلى لقاء ومشاركة يحقّق بهما أصالة وجوده. لذا فهو يسلبه معنى حياته والفرح النابع من هذا المعنى، ويجعل منه كائنًا جائع القلب في تخمته، سَئِمًا في متعته، غافلاً عن حقيقته، متلهِّيًا عنها بسراب القشور، متغرّبًا عن أخيه الإنسان وعن البؤس الذي يفرضه هذا المجتمع الأنانيّ الظالم على جماهير من المحرومين، أسير خِواء واكتئاب يحاول أن يتناساهما بشتّى وسائل الهروب من الذات كالجنس المبتذَل، والعنف (مشاهَدَةً أو مُمَارسَةً) والمخدِّرات أو الإستغراق في حُمّى عمل أشبه ما يكون بالمخدِّر.

“مجتمع الإستهلاك” هو، بالرغم من مظاهره الحضاريّة البّراقة، داء اجتماعيّ انطلق من الغرب (حيث يتصدّى له الكثيرون من المتبصّرين والشرفاء، لأنّ الغرب ليس لونًا واحداً كما قد يُظنّ)، ولكنّه حاليًّا بصدد اجتياح العالم برمّته، ويجد في هشاشة العالم الثالث- ونحن منه- موضوعًا قابلاً لإغراءاته. يبيّن الكتاب كيف أنّ مجتمع الإستهلاك يشكّل، في واقع الحال، خطرًا بالغًا على الحضارة الحقّ وعلى الإنسان الذي هو غايتها، ويتصدّى لزيفه الأساس وتزويره الهويّةَ الإنسانية. ويتوخّى من هذا التوضيح مساعدة القارئ على التسلّح بوعي يكشف به ألاعيب ذلك المجتمع ويواجه به وعوده السرابيّة ويتحرّ‍ر من هيمنته. كما يحاول الكتاب أن يرسم معالم منهج يصلح لمقاومة المفاهيم الاستهلاكيّة وإرساء قواعد مجتمع أكثر إنسانيّة. ويُختَتَم بعرض شهادات تصبّ في الهدف عينه، شهادات قد تكون متواضعة ولكنّها تُثبِت على الأقل أنّ سلوكاً مغايراً للصرعة الشائعة ممكن وناجح ومحفوف بفرح لا يقوى الإستهلاك على منحه. لذا يرى الكاتب في هذه الشهادات شموعًا تضيء العتمة، وهو يرجو أن يستضيءَ بها كثيرون فيسلكوا بدورهم، في إثر الذين عاشوا هذه الخبرات، الدربَ المؤدَي من “فتنة الإستهلاك” إلى “فرح المشاركة”.

 

طرابلس – الميناء (لبنان)،
في 28 كانون الأول 2000

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share