النور الذي لا يُدنى منه

mjoa Saturday January 28, 2012 180

كل ما اختلج فينا من فكر او رغبة او شهوة اما ان يكون استدخال كل شيء الى الذات لتحيا او إخراج الذات لتستمتع. كل ما فينا علاقة نحيا بها او نموت فيها فإذا دخل الخير او المحبة نكون وإذا دخل الملل او دخلت الخطايا نتفتت. نحن في تحرك الى زيادة وجود او اقتراب من الموت. ما من جمود في الكيان. هناك هدأة الفضيلة ان شئناها او هناك التدرج الى اللاشيء والاندراج في العدم حتى يرى الله في يوم دينونته ان كنا تحت الإدانة او كُشفنا في اللامحاكمة. هو لا يحاكم الا اذا رأى فينا سوءا ولذلك كان السعي عند الجادين ان يتحرروا من المحاكمة منذ البدء حتى يتحولوا في وجه ربهم الى قامات من نور.

“الله نور السماوات والأرض”. يراك مثله او يراك ظلمة. وإن أصررت في اليوم الآخر الا تكون مثله يتكثف فيك الظلام وكأنك أشبه باللاشيء. اما إذا أحببت نوره الذي فيك تصبح لغة، لغة الله فيناجيك الأعلون في المجد اذ صرت من المجد.
طبعا ليس نور الله كالنور الحسي مخلوقا اي ليس شيئا من الأشياء. هو منه قبل ان تكون الأشياء. يجيء منه ولا تدركه اذا نزل عليك اي لا تدركه بالعقل لأن العقل مخلوق والجوهر الإلهي غير مخلوق ولكنك تشارك القوى الإلهية الصادرة عنه.

ما الفضائل او أين الفضائل من هذا الكلام اللاهوتي؟ هي ليست أعمالا. انها صفات أعمال بمعنى انك اذا أتممتها تكون حقيقتها النور الإلهي الذي فيك. هي إذًا إشعاع من النور الإلهي. انت نيّر ونتيجة ذلك انك بارّ بحيث انك تساهم في برّ الله وبمعنى ما تجالسه. وإذا كثرت فيك الخطيئة فهي في ظاهرها عمل او تراكم سيئات ولكنها في حقيقتها ظلام اي طرد لله نفسه من نفسك لتغرق في ادلهمام ما ليس من نور.

في السلوك العلاقة ليست بينك وبين اعمال لك. هذا هو الظاهر. انها علاقة شخصية بينك وبينه. هو يستقر فيك نورا او تتهالك في العتمات فلا ترى وجهه. أنت دائما تعود الى بدء الضياء او الى بدء العتمات فيك. فإذا كنت في دوام العودة تكون كالكلمة الذي قال عنه يوحنا: “في البدء كان الكلمة”. وكما عبر الكلمة عن الله أزليا بصورة كاملة تأتي فضائلك لتقول الكلمة. فأنت ان استنرت لا تقول الا المسيح. وان انطفأت لا تقول شيئا. يديم الله عليك صورته وان تشوهت ليخاطبك في يوم رضاه ويزيل عنك العتمة ويرسل اليك إحسانه فضيلة فتتحرك به من جديد وتناغمه بنغمة منه.

■ ■ ■

أن تكون هادئا، مسالما، صابرا، وديعا، متواضعا، عفيفا، مطيعا للأحبة هذا شيء واحد. طلبا للإيضاح او الاستيضاح نقول: هذا يتمتع بهذا البهاء او ذاك تميزا للظاهر وتعبيرا عن هذه القوة او تلك فيك ولكن في الحقيقة كل الفضائل متماسكة كما ان الرذائل متماسكة. بكلام آخر اذا حلت النعمة عليك فهي توحد شخصيتك وتضم حسناتك الواحدة الى الاخرى فيقوى مثلا التواضع بالوداعة والصبر بالهدوء وتتشدد بالمسالمة. وما يبدو فيك فضائل هو في حقيقته حضور إلهي فيك.

كلامي هذا يقودني الى التأكيد ان الطهارة واحدة في كيانك وانها قادرة على ان تعود بالرضاء الإلهي لأن الرب ليس بغافل اياك ولا هو يتوارى عنك بالكلية اذا انت ألححت ان تتوارى عنه لأنه يحبك اكثر مما تهوى خطاياك. لا يوضع المحب البشر كما نسميه بموازاة مع الخطيئة التي يمكن ان تمحوها الرحمة. غير ان مكافحة الخطيئة تتطلب ترويضا رهيبا غير منقطع لأنه إماتة شيء ضخم وهو الخطيئة.

وهذه لا تموت الا عند نزاعك اذا أهل الله في آخر لحظة من وجودك سلامه فيك. في هذا جاء في أدبنا الروحي: لما كان القديس سيسوي (ساسين بالسريانية) يحتضر تحلق حوله الرهبان الذي كان يرئسهم فقالوا له: “يا سيسوي اعطنا كلمة حياة”. أجابهم: “انى لي ان اعطيكم كلمة حياة ولم أتب بعد». هذا البار الكبير كان يخشى انه لم يتطهر بصورة كاملة وانه تحت الحكم الإلهي. صراع لا بعده صراع يومي في النفس حتى يتسرب النور الينا ويملأ القلب في لحظة الرضاء لتستطيع ان تموت بهناء. لحظة الرضاء الإلهي نتهيأ لها بفضائل لا رجوع عنها تجلب علينا كثافة من نور. الحضور الإلهي تطلبه وليس الله ضامنك به الا بوعده. اما ان استلمت صادقا متواضعا هذا الوعد الإلهي فلا تعرف عنه شيئا الا في اليوم الأخير اذا تلفظ المسيح بهذا الكلام: «تعال يا مبارك أبي رِث الملكوت الذي أعددته لك”.

هو معد لك قبل إنشاء العالم. هل تؤمن بذلك هل أحسست انك حبيب الله؟ انت تمشي في كلام الله وتعرف بالإيمان ان المسيح تنازل اليك ولكنك لا تعرف كل المعرفة انك استقبلته. لأن الله وحده “يفحص القلوب والكلى بعدل”.
انت تعيش في الرجاء والرهبة معا يداخلهما الفرح اذا كنت مجاهدا مصلوبا اي باكيا على خطاياك سائلا النعمة المجانية التي تخلصك. كلمة الله اليك شيء واذا استقبلتها فأمر عظيم. انت تستقبلها اذا انكسرت وقبّلت قدمي المصلوب ومسحتهما بدموعك. قبل ان تتسلق تلك الجلجلة انت مجرد طاقة. يبدأ وجودك هناك.

واذا ادركت جروح المسيح تذهب الى الإخوة وتبشرهم بحبه علهم يتوبون لأنك ان لم توزع حبه عليهم لا تراه في نفسك ولا هم يخلصون واذا بكوا معك لأنهم احسوا بسقوطهم تتألف منك ومنهم كنيسة الرب.
هذه ستبقى حفنة صغيرة لكن الآب يتمجد بها. دائما كان الخطأة التائبون القطيع الصغير الذي اذا فهم ان المسيح وحده حصتهم يناله بالبركات. هذا هو السلام الكامل الذي يجعلك تنقاد الى المخلص انقيادا كليا ويتفعل إيمانك فيك بالرجاء.

الرجاء وحده يمدك الى لحظة الموت الذي هو مدخلك الى الرحمة. عش من اجل لقاء الموت. هذه قيامتك منذ الآن. ان فعلت هذا ينسى الرب كل هفواتك ويغض النظر عن كل تقصير لك في حياتك ويكملك بالغفران فترى نفسك محضونا.
احتضانه هو النور الذي كنت تنتظره. في حضنه ينسكب النور عليك كاملا ويكون ربك قد رضي وأخذك على صدره لتفهم الفهم الأخير.

المطران جورج خضر – جريدة النهار  2012-01-28

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share